"سلام"، ألقيت التحية بالعربية على جيمس الجالس دون حراك تحت شجرة مانجو. كررت "سلام، سلام"، فأرعبني عدم رده! أحسست بعدم ارتياح لصمته. جيمس رجل طيب، فما الذي أصابه؟ ما الذي حدث له؟ هل أصابه مكروه؟ لمَ لا يرد على سلامي؟ ما الذي يدور في ذهنه؟
كنت على بعد خمسين متراً عنه عندما سمعت امرأة خلفي، لا بد أنها كانت تمر قرب جيمس. سمعتها وقد ارتفع صوتها قائلة: "سلام يا جاري! أنا أسلِّم عليك يا جاري!" ومرة أخرى دهشت لاستمرار صمته.
في اليوم التالي، مررت أمام دار جيمس من جديد. لم يكن موجوداً، لكن وأنا عائد بعد بضع ساعات وجدته وسألته عن قرب: "كيف حالك سيدي؟"
"لا بأس".
"كيف تجري الأمور معك؟"
"لا بأس يا أخي"، أجابني وتابع: "هذه القضية، الحاجة إلى السلام، هي ما يزعجنا... نحاول أن نسير بالحياة إلى الأمام."
عندما سألته عن اليوم السابق لم يتذكَّر ما جرى!
لم يكن جيمس هو الوحيد الذي التقيه بهذه الحالة النفسية. بعد أسابيع قليلة اندلع الصراع من جديد في جوبا. التقيت كثيرين غيره في جنوب السودان وكانت نفوسهم تنوء تحت ضغط الاضطرابات السياسية والاقتصادية، وكانت وجوههم تعكس قلقهم حيال تأمين دخل يكفي أسرهم أو مكان أكثر أماناً ينتقلون إليه.
كثير من رجال جنوب السودان ممن كانوا يحاولون رفع مستوى أسرهم كانوا يرزحون تحت وطأة هذه الحالة لعشرات السنين منذ بداية حرب التحرير بين جوبا والخرطوم، مطلع ثمانينيات القرن العشرين.
ليس سهلاً أن تكون رجلاً يعيش في جنوب السودان، فعلى كل رجل أن يواجه تحديات كثيرة: القلق على مستقبل أطفاله وشريكة حياته وعلى استقرار البلد. وعليه أن يجتاز الصعاب ليكسب لقمة عيشه. يفسر المتخصصون في وظائف جسم الإنسان الأمر بالقول إن مظاهر التوتر هذه إنما هي نتيجة مباشرة لصراعات لا تهدأ، انتشرت وتكررت في أنحاء البلاد منذ أواخر كانون أول/ديسمبر ٢٠١٣.
ذكر تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية عام ٢٠١٦ أن مقابلات جرت مع ١٦١ شخصاً من أنحاء جنوب السودان، وأن كثيرين منهم ذكروا مجموعة أعراض مرضية تتطابق مع اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب، مثل الأحلام المزعجة والنزق والتهيج وانعدام القدرة على التركيز في الأنشطة اليومية.
يقول موثوني وانييكي، المدير الإقليمي لمنظمة العفو الدولية في منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي والبحيرات العظمى: "في حين يبدو الموت والدمار المادي الذي سببه الصراع وعشرات السنين من الحرب واضحاً للعيان، فإن الجراح النفسية التي لا تندمل أقل ظهوراً للعين ومهملة."