الإعلام عبر التعاون وفي التحول
Brunnenstraße 9, 10119 Berlin, Germany
mict-international.org

مشروعاتنا الأخرى
afghanistan-today.org
niqash.org
correspondents.org
English

العائدون إلى أبيي: بين ماض مرفوض ومستقبل مجهول

حمزة بلول
الآلاف حزموا أمتعتهم وعادوا إلى أبيي، تلك البقعة الصغيرة بين الشمال والجنوب والتي أضحت بمثابة كعب أخيل اتفاقية نيفاشا. البعض عاد آملا في مستقبل أفضل، لكن ما ينتظرهم مخيب للآمال إلى أقصى الحدود، فأبيي وإن كانت غنية…
25.04.2024
عرض للسكن في مدينة أبيي.
عرض للسكن في مدينة أبيي.

 

تحكي كيف جائت من وادي حلفا بفضل برنامج العودة الطوعية، هناك كانت تعمل  بالملاحة النهرية، توفى زوجها، وترك لها ثمانية من البنين والبنات، اجتهدت في تربيتهم لوحدها بفضل عملها المستمر. وتضيف: \"انا  الان في موطن ابي الذي غادرته منذ ان كنت طفلة صغيرة، في الغالب سأزرع ارضنا، ابنائي الكبار سيساعدوني في تربية اخوتهم الصغار، لا اخاف من المستقبل..\"

الي هنا ينتهي حديث اشول بول الارملة ذات ال55 عاما التي التقيتها وهي تساعد ابنائها في انزال الأمتعة من الشاحنة الضخمة التي اقلتهم الى ابيى. رغم سنين عمرها الطويلة الا انها كانت تبدو في معنويات عالية جدا ، وتعمل بهمة  فتاة عشرينية. تجمع حولي اولادها واحفادها يطالبونني بإلتقاط صور لهم وهم بجانب الامتعة ، اشول عادت لتغني اغنية من تراث  الدينكا تتحدث عن الحنين الي الوطن  بحسب ترجمة من كانو برفقتي لحظتها.

وتوالت التصريحات، التقيت بإمرأة في ال38من عمرها ، قالت انها كانت تقطن الخرطوم منذ خروجها من أبيي في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي ، لديها عدد من الابناء والبنين ، ايضا توفي زوجها قبل سنوات ، لكن علي عكس اشول تعليم الاطفال كان همها الاساسي. لديها خوف حقيقي ان تكون المدارس في ابيي غير منتظمة. رغم ذلك تؤكد في في نهاية حديثها عدم رغبتها مطلقا في مغادرة ابيي مرة اخري.

الرحلة إلى هنا كانت شاقة للغاية ومليئة بالمخاطر والصعوبات، علوية اجانق القادمة من ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة بوسط السودان، تشكو تحطم معظم الاثاث الخشبي في الطريق، وآخرون انتقدوا سوء التنظيم الذي صاحب التفويج، خاصة من الناحية الصحية، إذ لم تكن سيارة اسعاف واحدة ترافق قافلة قوامها اكثر من الفي شخص خلال اربعة ايام من المسيرة، خاصة  وان هناك امرأة وضعت طفلا ميتا نتيجة لظروف الرحلة الصعبة، كما شهدت المسيرة شهدت أيضا وفاة طفل عمره عامين.

لماذا يعودون؟ هذا هو السؤال الذي قفز إلى رأسي فور أن بدأت رحلتي الميدانية. لماذا يتكبدون المشقة والمتاعب، يتركون المنزل ومصدر الرزق ويعودون، إلى مستقبل غامض، إلى بقعة أرض، رغم ما يشيع عنها من أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية، إلا أنها من أفقر ما يكون؟

أبيي: أرض النفط أم أرض الظلام؟

 أبيي منطقة فقيرة إلى أقصى الحدود، وهذه هي إحدى المفاجآت التي تعدها لزائريها. فمن كثرة تكرار الاعلام العالمي لعبارة \"الغنية بالنفط\" التي تأتي مكملة لمفردة ابيي، قد يظن القارئ او المستمع او المشاهد ان هذه البلدة من افخم بلدات العالم علي الإطلاق. لكن لحظة ذهابك لشراء لتر من الجازولين سيصيبك الذهول حين تكتشف ان سعره دولار كامل. هكذا هي الحياة في مدينة التناقضات المربكة، ارقي السيارات تجدها تتهادي امامك في الطرق غير المسفلتة حاملة موظفي الأمم المتحدة والصحفيين والمنظمات الأهلية والمسئولين الحكوميين. أما سكان المنطقة فنصيبهم من هذه السيارات الفاخرة لا يتعدى الاتربة الكثيفة التي تخلفها حركتها في الطرق، يقضون مشاوريهم مرتجلين أو على ظهور الحمير، لأن مدينة الخمسين ألف نسمة ليس فيها مواصلات للعامة قط، باستثناء ثلاث دراجات بخارية من ذات الثلاث عجلات، \"التكتك\" أو ال\"ركشة\" كما يسميها السودانيون.

وتستمر سلسلة المفارقات التي يتضح من خلالها حجم الفجوة بين واقع مدينة أبيي وبين الصورة المنطبعة عنها في أذهان الجماهير. فبالرغم من ان اسم ابيي اضحي ذائع الصيت، والاجتماعات من اجل حلحلة ازمتها انتشرت في كثير من عواصم الدنيا، الا ان اهل ابيي خارج هذه الدائرة الي حد كبير. شبكة الهواتف الجوالة في المدينة رديئة للغاية ويمكن ان تنتظر اكثر من ساعة في بعض الاحيان للوصول الي رقم هاتف جوال، وكذلك الشبكة العنكبوتية التي تمر عليها ساعات الطوال دون ان تصلك بالدنيا خارج ابيي. فقط الاذاعات والقنوات التليفزيونية هي التي تربط هذه البقعة النائية بالعالم الخارجي، ووجودها من عدمه مشروط بالقدرة المالية، وهي بالطبع غير متوفرة للعامة. ومن الشواهد التي نسوقها للتدليل علي هذا الحديث  فشل عدد من مواطني ابيي  في الاجابة علي استفسارنا عن توقعاتهم لنتيجة الاجتماع الرئاسي الحاسم بشأن قضية منطقتهم، إذ لم يصلهم خبر الاجتماع من الاساس.

وبينما المجتمع الدولي يسلط الأضواء على أبيي ليل نهار، يعم فعليا الظلام قري المنطقة ومدينتها ، والتي لا تزال تنتظر  توصيلها بشبكة كهربائية. فقط المؤسسات الحكومية وبعض ميسوري الحال يمتلكون مولدات كهربائية يتم تشغيلها في العادة لساعات محدودة في اليوم مراعاة لارتفاع تكلفة الجازولين. ومما يزيد الطين بلة أن مدينة ابيي – مسرح الصراع حول ملايين النفط – لا تملك إلا طلمبة وقود وحيدة، حيث يتم بيع الجازولين والبنزين عن طريق البراميل البدائية واواني البلاستيك التي يحتفظ بها المشترين لمعاودة تعبئتها مرات اخرى.

إلى جانب ذلك يعاني أهل المدينة ارتفاعا مضنيا في الأسعار. استمعت بمحض الصدفة لحوار بين أحد الباعة وامرأة تشتري بعض السلع الضرورية. قالت: \" لماذا لايباع الفول المصري الا بجنيه كامل ، ماهذا الغلاء ؟\" آدم صاحب المتجر كان هادئا جدا وهو يرد علي السؤال بمثله: \"متي وصلتم الي ابيي؟\" اتضح بعد اجابة السيدة انها ضمن مجموعة العودة الطوعية التي وصلت إلى المدينة مساء اليوم السابق آتية من ودمدني عاصمة ولاية الجزيرة، وأنها اول عملية  تسوق لها في أبيي. تلفت ادم الي بعد لحظات قائلا \"هؤلاء العائدين سرعان مايتكيفون مع غلاء الاسعار\" ، ثم مضي يحكي بعد ان خفتت حركة زبائنه عن استيراده للبضائع من الخرطوم والابيض وبعض المدن الشمالية الاخري، وكيف ان اصحابها من التجار المغامرين يغالون في الاسعار بسبب انعدام المنافسة.

وعندما توجهت بالسؤال للعائدين إلى أبيي عن السر وراء لهفتهم للعودة، وذلك رغم ضعف الخدمات التي تعاني منه المنطقة كان حديث الغالبية عاطفيا ومتشابها الي حد كبير. ايالا دينق ماجد البالغة من العمر 38 عاما قالت: \"لن نعود مطلقا الي الشمال، حتي إن جاءت الحرب سنموت في ارضنا، هذا اكرم لنا. فرحي بعودة اقاربي لأرض الاباء والاجداد لايوصف ، كفاية ان يعيش الشخص في موطنه ، صدقني لاشئ يعادل الحياة في بلدك. \"

أما احد العاملين بسوق ابيي ففضل تفسيرا أكثر براجماتية لظاهرة العودة المكثفة قائلا: \"الجميع هنا يحلم بمستقبل ممتاز بناء علي الوعود التي يطلقها الساسة عن  التنمية التي ستشهدها المنطقة  نسبة لوجود ابار النفط في جوفها. ايضا هم عائدون من اجل التصويت في الاستفتاء المتعلق بتبعية المنطقة شمالا او جنوبا، اما الحنين الي الارض فهو موجود بالطبع  لكن ليس هو السبب الوحيد كما يدعي الكثيرون \".

العائدون: تحديات المستقبل

فهل سيخيب المستقبل آمال هؤلاء الحالمين بحياة أفضل في \"فردوس النفط\"، أبيي؟ إنه تحد كبير ولا شك، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار تقارير المختصين والتي تتنبأ بنضوب حقول البترول في المنطقة بحلول عام 2016 على أكثر تقدير. حينها يتضح لنا حجم التحدي الذي تمثله أفواج العائدين طواعية لصناع القرار في منطقة أبيي ومجتمعها المدني.

وفي هذا السياق أبدى ديانج دينق اقوك رئيس اتحاد شباب منطقة ابيي المعني بمراقبة احوال العائدين تخوفه من صعوبة حصول العائدين علي الخدمات الأساسية من صحة وتعليم ومياه ، خاصة العائدين إلى المناطق الريفية. أما رئيسة تجمع نساء الحركة الشعبية ايار وور فقد تحسرت علي عجزها عن  تقديم العون للقادمين الجدد من اهالي المنطقة، بسبب ضعف الامكانيات المتاحة لها. وأخيرا فقد أشار بيونق اشويل بليك عمدة مشيخة اديور الي المعاناة التي من المتوقع ان تواجه القادمين الي ابيي لأن معظمهم لايملكون مالا يبدئون  به حياتهم الجديدة. لكنه عاد ليؤكد على ان سكان منطقته سيقتسمون ممتلكاتهم القليلة مع اهاليهم العائدين، كما توقع أن تقوم الامم المتحدة بالاسهام  في دعم العائدين.