الإعلام عبر التعاون وفي التحول
Brunnenstraße 9, 10119 Berlin, Germany
mict-international.org

مشروعاتنا الأخرى
afghanistan-today.org
niqash.org
correspondents.org
English

"التفويج" ومهام أخرى: صناعة الانتخابات وراء الكواليس

مجاهد بشير
الانتخابات صنعة، وليست عملية عشوائية. والأحزاب التي ترغب في تحقيق أفضل النتائج تلجأ إلى محترفي جمع الأصوات أو كوادر الإسناد الانتخابي، لكن العقبة التي تعترض عمل هؤلاء الكوادر هي شح الموارد المالية.
الانتخابات صنعة وليست عملية عشوائية
الانتخابات صنعة وليست عملية عشوائية

أول الوجوه التي كشفت أولى لحظات الاقتراع عنها النقاب في أحد أحياء شرق النيل، كان وجه (سمسار) احترف ممارسة الاتصال الجماهيري وحشد الأهالي من الحي والمناطق المتاخمة لمصلحة كل من يستعين بخدماته، ويقول من يعرفه جيداً إنه كان في الأصل مؤيداً للاتحاد الاشتراكي والرئيس نميري، ولعب دوراً بارزاً في حشد وتنظيم الجماهير التي استقبلت نميري لدى عودته من المنفي، لكنه اعتزل الاتحاد الاشتراكي غاضباً بعد قراره الاندماج في المؤتمر الوطني، فأعاد توجيه طاقاته من الحشد السياسي إلى الحشد الرياضي وبرز دوره بقوة أثناء الصراع بين تياري الأصالة والصدارة حول رئاسة نادي الهلال، ونشط في جمع الأهالي واستخراج الجنسيات وبطاقات عضوية النادي لهم، ومن ثم نقلهم بالحافلات للتصويت في انتخابات رئاسة النادي.

ذلك السمسار، الذي لم يرغب في الإفصاح عن اسمه ويفضل نعت نفسه ب(المفوج)، جمع نسوة الحي يومها في عربة (هايس)، ونقلهم لمركز الاقتراع، وأخذ يكرر أفعاله ذاتها طيلة أيام التصويت، كان يعمل لمصلحة حزب حاكم كما يقول، مؤكداً أنه يفعل ذلك من باب التأييد السياسي لا غير، دون مقابل مادي معلوم يحصل عليه لقاء الناخب الواحد، وبغض النظر عما إذا كان الرجل قد انضم إلى ذلك الحزب بالفعل وأصبح حشد الجماهير من مهامه التنظيمية، أو أنه كان (مقاولاً) من الخارج استعان الحزب بمهاراته وخبراته وعلاقاته في المنطقة بحكم قدم إقامته بها، إلا أنه لم يكن الوحيد في سلسة صانعي الانتخابات الطويلة والمتشابكة في أكثر من حزب، فالمؤتمر الوطني على سبيل المثال، استخدم في عمليات الاتصال والحشد والإسناد الانتخابي عشرات الآلاف من الكوادر، منهم واحد وعشرون ألفاً في ولاية الخرطوم وحدها وفقاً لعبد الرحمن الخضر، القيادي بالحزب ووالي الخرطوم بعد الانتخابات.

كوادر الإسناد الانتخابي، بدأ عملهم باكراً منذ العام الماضي، عندما قاموا بالاتصال بالجمهور فردياً أو عبر مايكرفونات على عربات تتنقل داخل الأحياء، وأشرفوا على نقل الجمهور لمراكز التسجيل، وتسجيلهم في الدفاتر الحزبية الخاصة، قبل أن تنتقل مهامهم إلى تنظيم الحملات الانتخابية للمرشحين، قبل أن يختتموا المهمة بتقديم الإسناد من خارج وداخل مراكز التصويت، ونقل الناخبين إلى الخيمة الحزبية خارج مركز الاقتراع، حيث يتم تسجيلهم في الدفاتر الحزبية، وتزويدهم بإرشادات حول عدد البطاقات الانتخابية، ورمز الحزب، بعدها ينتقل الناخب إلى عناية كوادر الإسناد داخل مركز التصويت، حيث يتابع وكلاء المرشحين والأحزاب سير العملية، قبل أن يخرج الناخب إلى الخيمة الحزبية وفي إصبعه حبر الانتخابات، ليتأكد الكوادر من أن المهمة قد انتهت، لتتبقي المهمة الأخيرة، مراقبة صناديق الاقتراع وعمليات الفرز.

كادر الإسناد الانتخابي قد يكون سمساراً محلياً محترفاً يجيد ممارسة الاتصال الشعبي في منطقته وترتيب الحشود وجمعها، وقد يكون عضواً بالحزب، أو من المتعاطفين، فبعض الكوادر التي شاركت في الانتخابات لصالح هذا الطرف أو ذاك لم يكونوا من منسوبي تلك الأحزاب لكنهم أصدقاء وأقارب لبعض المرشحين أو الأعضاء.

الكوادر، تلقت قدراً متفاوتاً من التدريب المسبق يتباين بتباين الأوضاع المادية للأحزاب، فالمؤتمر الشعبي على سبيل المثال كانت لديه كوادر قليلة من أصحاب الخبرة والتجارب الانتخابية السابقة، فيما كان العدد الأكبر حديث التجربة، وتم إخضاعهم لتدريب محدود، داخل الحزب، أو في دورات تدريبية أقامتها مؤسسات أخرى، ويشكو سليمان حامد مسئول الانتخابات في الشعبي من ارتفاع تكاليف التدريب، وخدمات الإسناد الانتخابي كالنقل أو غيره، ويقول أنهم اكتفوا بتدريب محدود للعناصر دام لساعات أو يوم على الأكثر، وعدد قليل من عربات النقل، واعتمدوا في معظم المناطق على قدرات الأعضاء والمتعاطفين الذاتية من سيارات وغيرها، ويضيف أن أهمية عناصر الإسناد تكمن في مساعدة المؤيدين الذين يقيمون بعيداً عن مراكز التصويت، وتقديم الإرشادات اللازمة للناخبين، فضلاً عن مراقبة التصويت والصناديق خلال النهار، وحراستها أثناء الليل.

عمل كوادر الإسناد الفني والتقني والإحصائي، كان الجانب الحاسم في الانتخابات كما يقول اللواء حسب الله عمر نائب مدير جهاز المخابرات السابق، ويمضى إلى أن المؤتمر الوطني أفاد من إرث الحركة الإسلامية في التعامل مع الانتخابات، إرث تنظيمي يشاع أن الإسلاميين أخذوه عن الشيوعيين، لكنهم برعوا فيه خاصة في الجامعات، وطوروه عبر التوسع في توظيف المرأة وصبرها على الأعمال التي تتطلب الدقة والمتابعة والأناة، وكانت تجربة الجامعات تقوم على الإحاطة الكاملة بآراء الجمهور المستهدف، والاتصال الفردي المباشر، وتجديد المعلومات ومتابعتها، ما مكن الإسلاميين من التقدم في انتخابات دوائر الخريجين في العام 1986م، وهي ذات التجربة التي أعادوا انتاجها على نحو أوسع في ظروف مواتية أكثر هذا العام، بعدما تغيرت المعطيات الاجتماعية، وأفادوا من مقدرات المؤتمر الوطني البشرية والمالية. ويرى حسب الله أن القوى السياسية الأخرى افتقرت لهذا العمل الفني الإحصائي، عدا الشيوعيين الذين يتقنون هذا النوع من المهام، لكن عددهم القليل يبقي أثر هذا الإتقان للصنعة محدوداً.

إتقان صنعة الانتخابات، أشار إليه تصريحاً الزعيم التاريخي للإسلاميين الشيخ حسن الترابي، الأمين العام للمؤتمر الشعبي، وهو يدلى بصوته قبل حوالي أسبوعين، عندما داعب موظفي مركز التصويت قائلاً: (أنتم على أية حال ما تزالون حديثي عهد بالصنعة)، يقصد على الأرجح صنعة الانتخابات، فيما فسر البعض إشارة الشيخ الترابي بأن الرجل أراد التلميح إلى صنعة أخرى من صنائع الانتخابات، يؤكدون أن أتباعه وتلاميذه برعوا فيها في الماضي.

إتقان الصنعة وحده ليس كافياً للتقدم في الانتخابات، فصناعة الانتخابات تتطلب إلى جانب المهارة قدرات بشرية وموارد مالية، الأمران اللذان تفتقر لأحدهما أو كليهما معظم الأحزاب باستثناء الوطني، ويقول د.بخاري الجعلي مسئول الانتخابات في الحزب الاتحادي الأصل أنهم بذلوا جهدهم لمجابهة الوطني الذي يسيطر على سلطات الدولة الثلاث طيلة ستة أشهر بدأت مع فترة التسجيل، وقاموا بتدريب بعض كوادر الإسناد، لكنهم واجهوا معضلة شح المال، خاصة وأن الحكومة امتنعت عن تسليمهم تعويضات أملاكهم وأموالهم المصادرة بعد انقلاب 1989م، واكتفت بدفع قدر ضئيل قبل الانتخابات مباشرة، ما قطع الطريق أمام تغطية أنحاء السودان بكوادر الإسناد الاتحادية، ويخلص الجعلي إلى أن امتناع الحكومة عن دفع تعويضات مصادرات ما بعد الانقلاب، أثر بصورة مباشرة وحاسمة على تساوى الحظوظ الانتخابية، مما أضر بالعملية الديمقراطية وهز إلى جانب التزوير الثقة في الانتخابات.

الإسلاميون ووريثهم المؤتمر الوطني يزعمون أنهم أبرع السودانيين صنعة في الانتخابات، فيما يرد كثيرون تلك المواهب التنظيمية إلى الحزب الشيوعي العتيق، ويرجع البعض قدرات الحركة الشعبية التنظيمية إلى ما يصفونها بالكوادر اليسارية داخلها، التي تلقى بعضها تدريباً متقدما في والخارج، فيما يتمسك الحزبان التقليديان بما حققاه في 1986م وما قبلها للدلالة على قدرتهما على صناعة الانتخابات بمهارة في الظروف المواتية، وبغض النظر عن كل تلك المزاعم حول البراعة التنظيمية في الانتخابات، فإن الانتخابات الأخيرة كشفت أن الأمر قد يحتاج بالفعل إلى البراعة والخبرة، لكنه يحتاج قبل كل ذلك إلى المال.