الإعلام عبر التعاون وفي التحول
Brunnenstraße 9, 10119 Berlin, Germany
mict-international.org

مشروعاتنا الأخرى
afghanistan-today.org
niqash.org
correspondents.org
English

أسعار تفوق الخيال

ماهر أبو جوخ
الخرطوم - ارتفع ثمن تشييد منزل في الخرطوم بشكل حاد، حتى أصبح السكن في العاصمة حلماً بعيد المنال.
شارع في العاصمة السودانية الخرطوم، 31 مارس، 2012.
شارع في العاصمة السودانية الخرطوم، 31 مارس، 2012.

رغم مساحة السودان الشاسعة إلا أن العاصمة الخرطوم تعاني من ارتفاع متزايد في عدد السكان بسبب تنامي الهجرة السكانية إليها. انتشار المجاعة في عدد من أقاليم البلاد، والسياسات الاقتصادية التي اتبعتها الحكومة والتي أدت إلى الاختلال في توفير الخدمات العامة بين العاصمة وبقية الولايات، دفع العديد من الأسر لاتخاذ قرارها بالاستقرار في العاصمة التي تتوفر فيها خدمات أفضل وفرص عمل أكبر.

تلك التحولات أدت إلى زيادة الطلب على الأراضي وإنعاش سوق الإيجار العقاري في الخرطوم. إلا أن الشق الثاني من هذه المعادلة أدى لمضاعفة أسعار الأراضي بشكل كبير مع ارتفاع قيمة مواد البناء، وهو ما جعل الحصول على أرض وتشييد منزل عليها في الخرطوم أشبه بحلم بعيد المنال.

أصبح سعر أرض بوسط الخرطوم تصل مساحتها إلى 1000 متر مربع يتراوح ما بين نصف مليون إلى مليون دولار أمريكيوقد أقر الأمين العام للصندوق القومي للإسكان والإعمار غلام الدين عثمان في تقرير قدمه لمجلس الولايات في شهر أيار/مايو الماضي بوجود أزمة في الإسكان الحضري بالبلاد. وأصبح سعر أرض بوسط الخرطوم تصل مساحتها إلى 1000 متر مربع يتراوح ما بين نصف مليون إلى مليون دولار أمريكي.

بينت دراسات عديدة أن السبب وراء هذا الارتفاع المخيف يكمن في السياسات التي تتبعها الحكومة في بيع وشراء الأراضي  والممتلكات كجزء من الخصخصة، وكثرة مستثمري العقارات، بجانب ارتفاع نسبة التضخم وعدم استقرار سعر العملة الوطنية أمام الدولار وضعف الاستثمارات في المجالات الأخرى.

بينما يرى عدد من المختصين أن أسعار الأراضي في السودان غير طبيعية أو منطقية. يقدم أحد العاملين بمجال العقارات – والذي وافق على التعليق شريطة عدم كشف هويته – تفسيرات مختلفة لظاهرة ارتفاع أسعار الأراضي والتي عزاها لعدة جوانب أبرزها: تجميد وحفظ الأموال في شكل عقارات باعتبارها أكثر ضماناً وأقل خطورة في ظل التذبذب الاقتصادي وحالة الانهيار التام لمعظم الأنشطة التجارية والاستثمارية

وبالتوازي مع استمرار ارتفاع أسعار الأراضي، فإن ثمن معدات البناء المرتفع يساهم كذلك في زيادة ثمن تشييد منزل في  الخرطوم.

في تحقيق قدمته صحيفة ’السوداني‘، من إعداد الصحافي ياسر الكردي بعنوان ’سعار العقارات في الخرطوم -- بيوت من نار‘، أجرى الصحافي عمليات حسابية خلص فيها إلى أن تكلفة إنشاء منزل مكون من غرفتين وحمامين وصالون (طبقاً للأسعار الحالية) تبلغ 127 ألف و800 جنيه سوداني – أي ما يعادل 18 ألف دولار أمريكي تقريباً.

هذا وتتراوح الرواتب في القطاع العام الحكومي ما بين 400 و1500 جنيه سوداني شهرياً – ما يعادل 60 إلى 250 دولاراً أمريكياً. أما ثمن مواد البناء فيبلغ ثلث المبلغ الإجمالي، أما بقية المبلغ فهو تقديرات اليد العاملة. هذا يعني أنه على العامل في القطاع الحكومي أن يدخر راتبه كاملاً لمدة عشر سنوات تقريباً حتى يتمكن من تشييد منزل بسيط في الخرطوم.

وفي هذا الصدد فقد عزا عثمان في تقريره أمام مجلس الولايات ارتفاع تكلفة تشييد المباني في السودان لارتفاع أسعار مواد البناء والزيادة العالية في الرسوم الجمركية الحكومية، والتي تصل أحياناً لـ 100 في المائة. هذا بالإضافة لضريبتي القيمة المضافة، التي تبلغ 17 في المائة، والخدمات التي تقدر بواحد في المائة.

بالإضافة إلى ذلك كله، فقد تأثرت صناعة الطوب وارتفعت أسعاره بانفصال جنوب السودان، لأن معظم الأيدي العاملة في مشاريع إنتاج الطوب كانت من أبناء الجنوب الذين غادروا السودان بعد استقلال بلادهم في تموز/يوليو 2011، كما يقول الصحافي الطيب علي.


”ما أدفعه لأي شحنة من الحديد أستوردها من شرق آسيا إلى بورتسودان أقل من الرسوم التي أدفعها لإخراج الشحنة من الميناء“
أحد مستوردي الحديد والإسمنت
كما أن عملية البناء تخضع لما تسمى الضرائب ’الحرة‘ المفروضة من قبل السلطات المحلية. ثمة نقاط تحصيل مختلفة أنشئت على شوارع السودان تمثل مستويات الحكومة المحلية، والتي لا تزال تعمل بالرغم من صدور قرارات من قبل الحكومة المركزية بإلغاء الرسوم المحلية، والتي تعتبر مورداً رئيسياً وأساسياً للميزانية العامة للسلطات المحلية.

”ما أدفعه لأي شحنة من الحديد أستوردها من شرق آسيا إلى بورتسودان أقل من الرسوم التي أدفعها لإخراج الشحنة من الميناء“، يقول أحد مستوردي الحديد والإسمنت.

أسعار الإسمنت بالسودان مرتفعة مقارنة مع دول الجوار رغم تصنيعه محلياً. تفرض رسوم وجمارك وضرائب باهظة على الإسمنت المستورد بحجة حماية الصناعة المحلية.

ولكن الإسمنت المصنع محلياً يصل سعره إلى الضعف بسبب الرسوم والضرائب التي تفرضها الحكومة المركزية وحكومة الولاية. ”يمكن للمصانع المحلية بيع طن الإسمنت بمبلغ 300 جنيه سوداني في حال إلغاء الرسوم المتعددة المفروضة، وتحقيق أرباح أيضاً. الآن يباع طن الإسمنت بالأسواق بمبلغ يتجاوز 700 جنيه سوداني“، يقول نفس المستورد. هذا يعني أن الرسوم المفروضة تتجاوز 125 في المائة من قيمة أرباح وبيع الإسمنت.

حجم المنزل وطريقة بنائه في السودان يرتبط بمعطيات اجتماعية وثقافية، فكلما كبر حجم المنزل وتوسع فهو مؤشر على الوضع الاقتصادي والاجتماعي لصاحبه، كما يتجمع أفراد العائلة في المنزل الكبير أثناء الأعياد وتقام فيه مناسبات الأفراح.

لكن في ظل استمرار المعطيات الراهنة بارتفاع تكلفة شراء الأراضي وتشييد المباني عليها، هل من المتوقع أن تتغير الثقافة السودانية ويلجأ السودانيون للسكن الرأسي في الأبراج السكنية والشقق؟

يعتقد البعض أن خيار اللجوء للشقق قد يتم انتهاجه، ولكن بعد فترات طويلة وبعيدة تمتد لأجيال. لكن مصدرنا في مجال العقارات قدم وجهة نظر مختلفة، إذ يشير لتنامي ظاهرة السكن بالشقق حالياً مقارنة بالفترات السابقة.

عزا المصدر هذا التحول لأمرين أولهما تفضيلها من قبل السكان لقربها من وسط الخرطوم التي تتركز فيها الأنشطة الإدارية والاقتصادية والخدمية، وثانيهما نمو سوق استثمارها بدخول أعداد كبيرة لهذا المجال باعتباره يحقق أرباحاً ويعد الاستثمار فيه أقل مخاطرة.

”كل شيء يتغير من حولنا، وما قد نرفضه اليوم قد نقبله غداً وقد نلجأ لخيارات، ليس اقتناعاً بها ولكن لأن الظروف فرضتها علينا“
مصدر في مجال العقارات
ورغم تفضيل السودانيين للنمط التقليدي السائد على الشقق، لكنه يؤكد أن توفير الخدمات الأساسية بمناطق الخطط السكانية التي توزعها الحكومة للمواطنين وبناء شبكات الطرق والجسور تسهل عملية ربط تلك المناطق بوسط البلاد، الأمر الذي سيساعد على تشجيع المواطنين لاختيار الشقق.

حي النصر بمنطقة الحاج يوسف بشرق العاصمة مثلاً، كان لحوالي عقد من الزمن غير مرغوب فيه باعتباره يبعد عن وسط المدينة لمسافة لا تقل عن 15 كيلومتراً. بعد إنشاء الجسر الذي يربط بين منطقتي شرق وغرب الخرطوم المعروف باسم ’المنشية‘ قبل عدة سنوات، اختصرت المسافة لوسط الخرطوم، وبهذا ارتفعت أسعار العقارات والأراضي بحي النصر بشكل خرافي وبات المواطنون راغبين في السكن فيه.

ويجب الإشارة إلى أن هناك تحولات ملموسة في سلوك الجيل الحالي بخصوص مفاهيم الأسر السودانية، حيث أن الجانب العملي يجعل الأسر الصغيرة تفضل الشقق باعتبارها تلبي حاجتها ويسهل نظافتها وإدارتها. هذا بجانب تفضيل المغتربين الذين عاشوا لفترات طويلة بالخارج للسكن في الشقق.

”من قال إن علينا التمسك والاستمرار بنمط واحد للسكن؟“ يسأل مصدرنا في مجال العقارات. ”كل شيء يتغير من حولنا، وما قد نرفضه اليوم قد نقبله غداً وقد نلجأ لخيارات، ليس اقتناعاً بها ولكن لأن الظروف فرضتها علينا.“