الإعلام عبر التعاون وفي التحول
Brunnenstraße 9, 10119 Berlin, Germany
mict-international.org

مشروعاتنا الأخرى
afghanistan-today.org
niqash.org
correspondents.org
English

هل اختار السودان الموقف الصحيح في أزمة حوض النيل؟

ماهر أبو جوخ
موقف الخرطوم القريب من القاهرة في أزمة حوض النيل زاد من عمق الهوة بين الدولتين وباقي دول حوض النيل، غير أن السودان مؤهل لمعالجة هذه الازمة الناشبة في حال تعديل موقفه.
25.04.2024
النيل شريان الحياة في البلدان التي تقع على حوضه
النيل شريان الحياة في البلدان التي تقع على حوضه

موقف الخرطوم القريب من القاهرة في أزمة حوض النيل زاد من عمق الهوة بين الدولتين وباقي دول حوض النيل، غير أن السودان مؤهل لمعالجة هذه الازمة الناشبة  في حال تعديل موقفه.

الرابع عشر من الشهر الجاري قد يكون يوما فارقا وتاريخيا لمنطقة دول حوض نهر النيل، إذ سيشهد هذا اليوم تقسيم الدول العشر التي ظلت طوال العقد الماضي تتفاوض للبحث عن اطار قانوني يجمعها لمعكسرين يضم الاول كلا من السودان ومصر أما الثاني فيضم بقية دول الحوض الثماني (اثيوبيا، ارتريا، كينيا، يوغندا، الكنغو الديمقراطية، رواندا، بورندي وتنزانيا) حيث تعتزم دول المعسكر الثاني التوقيع على اتفاق اطاري بصورة منفردة بمعزل عن السودان ومصر اللذان يشترطان اجراء بعض التعديلات على الاتفاقية كشرط سابق للتوقيع عليها التي تحفظ لهما مبدأ حقوقهما التاريخية في الاستفادة من مياه النيل.

وتفجرت الازمة بشكل مدوي في الاجتماع الوزاري لوزراء ري دول الحوض الذي عقد قبل عام في عاصمة الكنغو الديمقراطية كينشاسا حيث انسحب الوفد السوداني يومها من الاجتماع بعد اثارته لنقطة اجرائية تتعلق باحالة القضايا الخلافية حول الاتفاقية التي احيلت من الوزراء للاجتماع الرئاسي وبالتالي فإنه لا يجوز مناقشتها مجدداً من قبل الاجتماع الوزاري، اما الجانب المصرى فطلب بادخال عدد من التعديلات بأن يتضمن البند 14 ب من الاتفاقية الخاص بالامن المائي نصاً صريحاً يتضمن عدم المساس بحصة مصر وحقوقها التاريخية فى مياه النيل، وأن يتضمن البند رقم 8 من الاتفاق أى مشروعات تقوم بها دول أعالى النيل، اتباع إجراءات البنك الدولي في هذا الشأن صراحة وأن يتم إدراج هذه الإجراءات في نص الاتفاقية وليس في الملاحق الخاصة بها كما وضعت شروط للتوقيع على هذا الاتفاق وتعديل البندين رقم "34 أ" و"34ب"، بحيث تكون جميع القرارات الخاصة بتعديل أي من بنود الاتفاقية أو الملاحق بالإجماع وليس بالأغلبية، وفي حالة التمسك بالأغلبية فيجب أن تشمل دولتي المصب، واقترحت مصر تشكيل لجنة وزارية رباعية - من مصر والسودان وإثيوبيا وإحدى دول حوض النيل الإستوائي - مع وجود خبير أو اثنين من المنظمات الدولية لإيجاد صيغة توافقية خلال 6 شهور، وما فاقم من تعقيدات الامر هو فشل الوزراء في اجتماعات شرم الشيخ في التوصل لاتفاق يتجاوز الخلافات حيث اعلنت وقتها الدول الثماني اتجاهها التوقيع المنفرد بمعزل عن السودان ومصر.

ولعل الامر الجديد هو انضمام اثيوبيا التي تقدر كميات المياه التي تغذي نهر النيل من هضابها بحوالي 80% لمجموعة دول منبع النيل الابيض التي سبق أن كونت جسما تنسيقيا بينها منذ عام 2005م، وهو ما يجعل الشكل والسيناريو القادم مختلفا بشكل كبير.

الموقف السوداني بدأ مسانداً ومنحازاً للموقف المصري ومتمسكاً بمبدأ الحقوق التاريخية لكلا البلدين ولعل دوافع القاهرة واصرارها على التمسك بالاتفاقيات التاريخية واخرها اتفاقية 1959م يبدو امراً مفهوماً ومتسقاً مع مكاسبها التي نتجت عن تلك الاتفاقيات فاتفاقية 1959 م منحتها 55.5 مليار متر مكعب وخصصت للسودان 18.5 مليار متر مكعب فقط، ولعل هذا الموقف طرح العديد من التساؤلات حول مراعاة واستصحاب هذا الامر للمصالح السودانية الاستراتيجية على المدى البعيد سيما في الوقت الذي يلوح فيه في الافق وجود اتجاه لجنوب السودان للانفصال ووقتها ستتم المحاصصة بين الشمال والجنوب في المياه.

في تقديري أن السودان تعرض لظلم فادح في اتفاقية 1959م تجاوز الجزئية المتصلة بنصيبه الزهيد في حصة المياه لما هو اكثر من ذلك، فهو ملزم بالتنازل عن نفس المقدار الذي ستتنازل عنه مصر في حال إقرار حصص جديدة لصالح استخدامات دول حوض النيل، هذا امر غير عادل ولا يستقيم ولا يقوم على أي منطق فإذا كان توزيع الحصص لم يستصحب التساوي بغض النظر عن المنطق الذي استند عليه هذا التوزيع فما الذي يجعل التساوي قائماً في (الاخذ) ويجعله غائباً عن (العطاء).

قد يقول البعض أن الموقف السوداني يهدف لمخاطبة ود القاهرة وعدم فقد سندها الدبلوماسي والسياسي بسبب تعقيدات الاوضاع التي يمر بها السودان محلياً واقليمياً ودولياً وعلى راسها تقرير المصير للجنوب ودارفور والمحكمة الجنائية الدولية، أو انه يستند على مبدأ احترامه والتزامه بالعهود والمواثيق والاتفاقات التي ابرمها، حيث نتج عن الفرضية الأولى أو الثانية أو كليهما مساندة الموقف المصري في تأكيد الحقوق التاريخية للطرفين في استخدام مياه النيل، وجوهر هذا الموقف جعل السودان يصنف في معسكر (مع) مصر و(ضد) الاخرين بالمنطقة وهو موقف تترتب عليه تداعيات كبيرة قد يتضرر منها السودان في المقام الاول، وهو ما كان يفرض عليه تمييز موقفه عن الموقف المصري، وهو ما يذكرنا بالتداعيات التي ترتبت عن سوء فهم موقف السودان الرسمي في حرب الخليج الثانية إذ كان رافضاً لغزو الكويت من قبل العراق وفي نفس الوقت يرفض مبدأ تدخل القوات الدولية إلا أن الموقف الشعبي والاعلامي كرس لدعم الموقف الثاني وهو ما يجعل السودان يدفع ثمناً باهظاً بسبب هذا الامر لما يقارب العقد من الزمان.

بخلاف الاضرار المستقبلية التي قد تنشأ، فإن نشوب صراع إقليمي بالمنطقة كما تتكهن به العديد من المؤسسات الاعلامية بين مصر واثيوبيا سواء كان بشكل مباشر بين البلدين -رغماً عن عدم وجود حدود مشتركة بينهما- او بتغذية الصراعات بالمنطقة عبر العديد من السيناريوهات سيجعل السودان واراضيه في اتون حرب إقليمية سيتضرر من تبعاتها بشكل رئيسي، سواء انزلقت اقدامه ليجد نفسه في غمار تلك الحروبات ووقتها سيكون حكم التحالفات التي نشأت في المنطقة بين مجموعة الثمانية مهددا من معظم اطرافه والتي ستؤدي بكل تأكيد لمفاقمة ازماته الداخلية المعلوم التهابها وعدم قابلية الاوضاع الداخلية الهشة تحمل تبعات حروب اكثر أو مواجهات ذات طابع إقليمي في جانبها الانساني والبشري من خلال موجات النزوح واللجوء ناهيك عن خوض غمار تلك الحروب الاقليمية.

وبمقارنة تلك المعطيات على مصر فنجد بعض الضرر واقع عليها ولكنها تكون قد استعارت المنهج الامريكي بـ "خوض الحرب خارج الارض" المطبق في افغانستان والعراق، وصحيح أن لكل حرب خسائر ولكنها وفق ذلك المنهج الامريكي هي اقل كلفة من خوضها في اراضيها وربما تجد اطرافا اقليمية لديها القابلية للقيام بها بالوكالة. ونتيجة تلك الحرب قد تؤدي لتحقيق هدف استراتيجي ظل امرا بعيد المنال باحكام سيطرتها على منابع النيل خاصة فرعها الرئيسي النيل الارزق ويجعلها تؤمن هذا الملف وتغلقه بـ "الضبة والمفتاح" عند تحقيقها أو حلفائها الاقليميين لنصر عسكري، أو فشلها في تحقيق هذا الانتصار بشكل سريع وخاطف أو عدم تحقيقه اصلاً فوقتها ستجد نفسها في حرب استنزاف ومتورطة في اتون مواجهات وحروب ذات كلفة باهظة لا يسمح اقتصادها بالانفاق عليها لفترات طويلة وقد يؤدي هذا الامر لتزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية للشعب المصري وربما وجدت نفسها وجهاً لوجه امام شبح تجربة حرب اليمن التي خاضتها منتصف القرن الماضي، إلا أن عدم تحقيق الانتصار في تلك المواجهة الاقليمية سيكون إمكانية أن يؤدي لحدوث تغيرات سياسية في تركيبة الحكم بمصر.. أما على المستوي الاستراتيجي فستكون مصر امام الامر الواقع بأنها خسرت معركة مياه النيل بشكل نهائي وبالتالي سيكون لاثيوبيا مطلق السلطة والقدرة على التصرف في مياه النيل بالكيفية التي تراها مناسبة.

اقرأ المقال في صحيفة السوداني

المخرج من كل هذه السيناريوهات المقلقة لجميع دول وشعوب حوض النيل يستوجب حل الازمة ومفتاح الحل في الخرطوم فهي القادرة بحكم صلاتها المباشرة هي وحكومة جنوب السودان مع بقية دول حوض النيل على ايجاد المعادلة التي تجعل باب الحوار مفتوحاً بين الفرقاء وتبعد شبح الحرب والصراع عن المنقطة، هذا لن يتحقق دون تعديل موقف السودان بأنه متمسك بمبدأ الحقوق التاريخية ويقر باحقية دول حوض النيل في الاستفادة من مياه النيل، مصلحة السودان الاساسية تعزيز صلاته وعلاقاته مع جيرانه سيما دول حوض النيل وتحسين الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسكان هذه المنطقة، هذا امر ايجابي يعود بالنفع عليه وعلى الاخرين من حوله، الخطوة الأولى لتحقيق هذا الامر قمة رئاسية لدول حوض النيل تستضيفها الخرطوم التي جمعت بين النيلين الازرق والابيض في المقرن.

لشعوب هذه المنطقة سجلات حافلة بالحروب الاهلية والاقليمية جربوا اوارها واكتووا بنيرانها وحصدوا خرابها، ولذلك فليس من بين خياراتهم الاستمرار في زراعة الحرب وحصد الموت انهم يتطلعون لصناعة الحياة وتحقيق الاستقرار، ومثلما كان السودان ملهمهم في رحلة الاستقلال والانعتاق من الاستعمار فهم اليوم بحاجة لتجديد دوره ولن يكون عصياً على الخرطوم التي وحدت العرب من بعد تشرذم بعد هزيمة 1967م منحت المهزومين الامل في امكانية أن ينتصروا، أن تفعل ذات الأمر مع دول حوض النيل بعد أن بلغت القلوب الحناجر وظن انه (النزال) فربما يكون عتمة الظلام هي التي تسبق انبلاج الفجر الجديد.