الإعلام عبر التعاون وفي التحول
Brunnenstraße 9, 10119 Berlin, Germany
mict-international.org

مشروعاتنا الأخرى
afghanistan-today.org
niqash.org
correspondents.org
English

تشتت الأحزاب السياسية الكبيرة عشية الانتخابات

ماهر أبو جوخ
تنعقد الانتخابات السودانية وسط ربكة سياسية تسببت فيها حالة التشتت التي صبغت مواقف الأحزاب الكبيرة.
حال
حال

مصطلح (الدياسبورا) اصله يهودي ويعني (التشتت والتشرد) ولعل هذه العبارة وردت في مذكرة شهيرة سياسية داخلية لرئيس حزب الامة الاصلاح والتجديد مبارك الفاضل المهدي قدمها للمكتب السياسي لحزب الامة القومي قبل اشهر قليلة من انقسامه عن الحزب في عام 2002م لتقييم الموقف السياسي ويومها وصفت تلك المذكرة الاوضاع داخل الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يقوده الميرغني بأنه يعيش في حالة (ديسابورا تنظيمية).

وعلى ذات خطى مذكرة الفاضل التي وصفت يومها الاتحادي بانه يعاني من (دياسبورا) تنظيمية فيمكننا أن نتأمل المشهد السياسي الراهن طوال الايام الماضية منذ إعلان الحركة الشعبية سحب مرشحها لانتخابات الرئاسة ياسر عرمان ومقاطعتها للانتخابات في كل ولايات دارفور واستمرارها في بقية المستويات وما تلتها من (دياسبورا داخلية) لقيادات القوى السياسية الرئيسية بالساحة السياسية التي افضت لخلق حالة من الربكة السياسية، إلا أن الأمر المدهش أن هذه الربكة تتم قبل ايام من اجراء الاقتراع لاقامة الانتخابات.

حالة التشتت التي انتظمت المشهد السياسي السوداني سيكون لديها تأثيران بارزان اولهما على الصعيد الداخلي بتشكيكها في قدرة تلك الاحزاب لدى قطاعات واسعة من الجماهير وزيادة تخوفها من احداث تغيرات في التركيبة السياسية الحاكمة وستؤدي لزيادة حظوظ فوز المؤتمر الوطني إما لعزوف مؤيدي تلك الاحزاب بسبب ألإحباط.

والتأثير الثاني خارجي ومرتبط بالاطراف الاقليمية والدولية والتي بات تأثيرها على الساحة السياسية السودانية من خلال دورها الكبير في تحقيق اتفاقات السلام المختلفة. فالمواقف الاخيرة من الانتخابات خلال الاسبوع الماضي سيسهم في تعزيز وتأكيد بعض الاطراف الدولية والاقليمية التي كانت تنظر للقوى السياسية التاريخية باعتبارها "معيقا" للتحولات الكبرى بسبب تشابكات اوضاعها التنظيمية والسياسية الداخلية اكثر من كونها "مساهما فاعلا".

لكن المعطي الاساسي الذي وضح خلال الفترة الماضية هو تنامي تأثير القواعد الحزبية على قيادتها والتي أثمرت ضغوطها وتوجهاتها في دفع القيادات لمحاولة مراجعة مواقفها من العملية الانتخابية، وربما هذا هو الجانب الإيجابي الوحيد للمشهد السياسي خلال الاسبوع الماضي.

الصغار نجحوا

ومن المعروف أن الساحة السياسية السودانية تحتوي على تصنيفات للقوى السياسية فبعضها يطلق عليها القوى الكبيرة واخرى الصغيرة وإقليمية، ثم بدأ يلج تصنيف جديد وهو (القوى الرئيسية) وفي الخانة الاخيرة تصنف عدد من القوى السياسية وهي (المؤتمر الوطني، الحركة الشعبية، الامة القومي، الاتحادي الديمقراطي الاصل، الشيوعي والمؤتمر الشعبي)، وفي بعض الاحيان تبدو حركة تحرير السودان بقيادة كبير مساعدي رئيس الجمهورية مني اركو مناوي ومن خلال المواقف التي تتخذه جزءا من حلقة القوى الرئيسية، أما جبهة الشرق واحزابها المختلفة فباتت بعد تبعثرها بلا مواقف واضحة وإن غلب على معظمها –مع وجود استثناء لحزب الشرق الديمقراطي بقيادة د. آمنة ضرار- بما تبنته من مواقف متناهية في المؤتمر الوطني لدرجة يصعب فيها التمييز بينها وبين الوطني.

وعلى الضفة الاخرى نجد مجموعات احزاب يطلق على بعضها الاحزاب الصغيرة كـ(التحالف الوطني السوداني، المؤتمر السوداني، المجموعات البعثية المختلفة، حركة حق، الناصريين، حشود...الخ) والتي تعتبر بشكل أو بآخر حركات سياسية ذات انتشار جماهيري محصور، ولعل البعض يعتبر أن القوى الرئيسية تنظر لها في العديد من الاحيان كما يقول الرياضيون بأنها (اشبه بفرق الدوري الممتاز التي يكون دورها تكميلياً للهلال والمريخ اللذان ظلا يتنافسان على المركزين الاول والثاني ويتركوا للبقية ما دونهما من مراكز، ولكن ذلك لا يحول دون احداث بعض تلك الفرق لمفاجآت بالتعادل أو الفوز على أي من الفريقين ولكن تلك المفاجأة يكون في الغالب الاعم المستفيد منها فعلياً هو الفريق الغريم اكثر من غيره).

الصغار يكسبون

وبخلاف حزب المؤتمر الوطني فإن بقية اعضاء نادي الكبار الذي يضم بجانبه كلاً من الحركة الشعبية والامة القومي والاتحادي الاصل فإن تلك الاطراف الثلاثة ظلت مواقفها من العملية الانتخابية غير واضحة وهو ما ادى لارباك المشهد السياسي بالبلاد جراء (دياسبورا) تلك الاحزاب.

وعلى الضفة الاخرى نجد أن بقية الاحزاب التي تنظر لها تلك الاحزاب الكبيرة من علٍ اثبتت انها الاقدر على اتخاذ قراراتها السياسية، ففي ضفة المشاركين في الانتخابات لم ترهن احزاب (المؤتمر الشعبي، التحالف الوطني السوداني والمؤتمر السوداني) مواقفها من المشاركة في الانتخابات بتحقيق اجماع بعيد المنال، كما لم تفاجئها التحولات الدراماتيكية من الحركة الشعبية باعلانها سحب مرشحها لانتخابات الرئاسة، وبالتالي عفت نفسها من الخوض في جدل التأجيل واعلنت استمرارها في السباق الانتخابي حتى نهاية المشوار، باعتبارها جزءا من معركتها المدنية الجماهيرية لهزيمة المؤتمر الوطني والمراهنة على وعي ومقدرة الجماهير على احداث تحولات.

وتخوض تلك الاحزاب الانتخابات في مستويات مختلفة فالشعبي يخوضها في جميع المستويات اما التحالف السوداني فيخوضها مرشحه عبد العزيز خالد في رئاسة الجمهورية بالاضافة لعدد من المرشحين بالدوائر القومية ابرزهم مالك منصور بامدرمان ورئيس الدائرة السياسية للحزب المهندس محمد فاروق والصحفي احمد طه بدائرة كسلا، أما حزب المؤتمر السوداني فتشير التقديرات لتزايد حظوظ رئيس الحزب ابراهيم الشيخ بالفوز بدائرة النهود في ما يخوض عدد من مرشحي الحزب الانتخابات في مستويات مختلفة ابرزهما القيادي بالحزب د.الفاتح عمر السيد بامدرمان والمهندس محمد فريد بيومي الذي سينافس مرشح المؤتمر الوطني غازي صلاح الدين بالدائرة (17) بحرى.

رابط المقال بموقع صحيفة السوداني

خارج الانتخابات

اما بالنسبة للاحزاب المقاطعة فنجد أن حزب البعث العربي الاشتراكي الاصل الذي يقوده على الريح السنهوري كان الاسبق دون غيره حينما اعلن تحفظه على العملية الانتخابية قبل بداية الترشيحات وقرر مقاطعتها، فيما آثرت بقية قوى اجماع جوبا خوضها والتي لاحقاً انسحب معظمها من السباق بعد إعلان الحركة الشعبية سحب مرشحها لانتخابات الرئاسة حيث اعلن كل من الحزب الشيوعي والامة الاصلاح والتجديد الانسحاب والمقاطعة من انتخابات كل المستويات، ولعل البعض يفسر مقاطعة تلك الاحزاب التي تصنف بانها صغيرة للانتخابات بسبب فقدانها للقواعد الجماهيرية التي يمكن أن تقودها للسلطة عبر الديمقراطية.

منطق الحركة المغلوط

الاسبوع الماضي كشف مسألة مهمة متصلة بالكيفية التي تدير بها قيادة الحركة الشعبية تنظيمها واظهر غياب المؤسسية بشكل كامل وهو الامر الذي تجلى في حالة الذهول والصدمة التي اعترت منسوبي قطاع الشمال من قرار المكتب السياسي القاضي بسحب مرشح الحزب لانتخابات الرئاسة ومقاطعة الانتخابات بدارفور بسبب ما اعتبرته الحركة تزويراً يؤثر على نزاهة الانتخابات، فهي تشكك في النزاهة وتقاطع وتشارك...!! الجزئية الجديرة بالوقوف أن الجهة الاساسية التي اعترضت على هذا القرار كان قطاع الشمال نفسه –والذي من المفترض هو الجهة التي قدمت خلاصة الموقف للمكتب السياسي للحركة الذي اتخذ قراره بناء على ما توصل له قطاع الشمال- وطالما أن هذا القطاع هو المعترض فما هي الجهة التي اتخذت قرار المقاطعة ولعل حالة الاحتجاجات داخل قطاع الشمال هي التي فتحت الباب بوجود صفقة بين عناصر برئاسة الحركة والمؤتمر الوطني.

لكن ما حدث في الاجتماعات التي عقدت بالخرطوم بين نائب رئيس الحركة د. رياك مشار وقيادات قطاع الشمال تحكي فصلا ثانيا لغياب تلك المؤسسية، فمشار حينما جوبه بانتقادات واعتراضات من قيادات قطاع الشمال لقرار الانسحاب الجزئي ومطالبتهم إما بالتراجع عنه أو الانسحاب من كل مستويات الشمال، فقد رد الرجل عليهم "بأنهم عليهم خوض الانتخابات في الشمال بالتعليمات" وهو ما استفز قيادات القطاع وبلغ الامر مرحلة قصوى من التوتر افضى في خاتمة المطاف لعقد المكتب السياسي للحركة اجتماعاً طارئاً فوض لجنة رباعية برئاسة الامين العام باقان اموم ونائبه بقطاع الشمال ياسر عرمان واثنين من اعضاء المكتب السياسي للاجتماع بقطاع الشمال واتخاذ ما يرونه مناسباً في ما يتصل بتحديد موقف القطاع من الانتخابات، وهذا يؤكد ما اشرنا إليه سابقاً بأن قرار المكتب السياسي الاول تم بغياب القطاع، ويكتمل المشهد بما اعلنته الحركة الشعبية مساء امس الاول بمقاطعتها لانتخابات الرئاسة والولايات الشمالية الـ(13) – تتبع ولايتا النيل الازرق وجنوب كردفان تنظيمياً لقطاع الجنوب- بسبب وجود تزوير يستحيل معه اجراء انتخابات حرة ونزيهة.

وصحيح أن الحركة الشعبية حسمت موقفها بنزع فتيل انفجارها التنظيمي بإعلان مقاطعة قطاع الشمال، إلا أن هذا الامر سيجعلها في مقبل الايام تدخل في خضم تناقضات عميقة فهي عملياً ترفض انتخابات الشمال وتعترف بانتخابات الشمال وطبقاً لذلك ستكون جزءا وشريكا –في حال فوزها المتوقع بجل انتتخابات الجنوب- مع شريكها المؤتمر الوطني –المتوقع ايضاً أن يفوز بجل انتخابات الشمال- في الحكومة القومية التي سيتم تشكيلها بعد الانتخابات، ولنمضي لاكثر من ذلك بأنها ستكمل اجراءات تقرير المصير مع مكون سياسي هي نفسها تطعن في شرعيته، وبالتالي تكون دقت اول مسمار في عدم الاعتراف بما يتمخض عن حق تقرير المصير "فما قام على باطل فهو باطل" وهذا ما قالته الحركة يوم امس الاول عن الانتخابات ولم تقله جهة اخرى.

الاتحادي: استعينوا بالكتمان

سيكتب في التاريخ أن الحزب الاتحادي الاصل هو الوحيد على مر التاريخ الذي ظل يستعين على قضاء حوائجه بالكتمان على قيادته وقواعده بما في ذلك موقفه ومشاركته في الانتخابات العامة قبل (72) ساعة من انتهاء الحملة الانتخابية...!!! فمنذ يوم الخميس الماضي الاول من ابريل تضاربت الروايات داخل الحزب حول الموقف النهائي له من الانتخابات فيعلن انسحابه من انتخابات الرئاسة واستمراره في بقية المستويات، ومرة ثانية انسحابه من كل المستويات وثالثة بمشاركته في جميع المستويات، وحتى حينما اجتمع المكتب السياسي للحزب منتصف الاسبوع الجارى ترك القرار النهائي لرئيس الحزب مولانا الميرغني، واكتمل المشهد مساء امس الاول في الندوة التي اقامها الحزب بميدان الرابطة بشمبات والتي اعلن فيها رئيس الحزب بولاية الخرطوم أحمد علي ابوبكر مشاركة الحزب في جميع المستويات الانتخابية.

وامتلأت المجالس السياسية في الآونة الاخيرة عن وجود صفقة سياسية بين الحزب والمؤتمر الوطني إلا أن هذا الامر لا وجود لادلة تؤكده أو تنفيه حتي اللحظة، إلا أن النقطة الجديرة بالتأمل التي تظهر في تصريحات قيادات بالحزب انهم قرروا المشاركة في الانتخابات الرئاسية بعد تراجع بعض القوى السياسية عن مواقفها التي تم الاتفاق عليها في الاول من ابريل وسعيها للعودة للسباق الانتخابي مرة اخرى رغم سحب الحزب مرشحه من السباق الرئاسي تضامناً مع القوى السياسية، هذا الامر يشير لاتخاذ الاتحادي قرار انسحابه من السباق الرئاسي في اطار "المجاملات" رغم أن المواقف السياسية تتخذ بناء على "المصالح" لا "العواطف".

ومن الضروري عدم اغفال معطى اساسي دفع الاتحادي تجاه المشاركة في المستويات الانتخابية المختلفة بخلاف انتخابات رئاسة الجمهورية وهي تصاعد وتنامي ارهاصات فوز عدد من مرشحيه بمناصب لولاة الولايات والدوائر الجغرافية القومية والولائية والقوائم الحزبية والنسوية القومية والولائية، مما سيجلعه رقما سياسيا لا يمكن تجاوزه، وهذا الامر مثل عنصر ضغط اضافي عزز فرص المشاركة داخل قواعد الحزب.

ضباب الامة

ظل حزب الامة القومي متردداً في خوض الانتخابات في ظل اوضاعها الراهنة لمعطيين اساسيين اولهما تاريخي مرتبط بأن الحزب وقيادته تعتبر نفسها صاحبة الاغلبية الشعبية في اخر انتخابات تعددية اجريت في البلاد وبالتالي فإن المشاركة في انتخابات جديدة وفق ظروف لا تتيح للحزب تحقيق تلك الاغلبية سيكون امرا لا يحظي بالتشجيع والدعم، أما الامر الثاني فهو مرتبط بالاوضاع في دارفور حيث ظلت دوائر الاقليم في كل الانتخابات التعددية التي اجريت بالسودان هي العمود الفقرى للكتلة البرلمانية للحزب ولعل اخر انتخابات تعددية في عام 1986م تظهر هذا الامر حينما فاز الحزب بـ(34) دائرة انتخابية من جملة (49) دائرة بالاقليم ومثلت مقاعد دارفور (33.7%) من جملة مقاعد الحزب بالجمعية التأسيسية والبالغ عددها (101) مقعداً، لكن مع المعطيات والتحولات التي شهدتها دارفور خلال السنوات الماضية قد لا تسمح له بالاستئثار بجل مقاعد دارفور في الانتخابات الحالية.

لكن حزب الامة وجد نفسه مطالبا بمواءمة (التخوف من نتائج الانتخابات) مع (تنامي حظوظ وفرص الفوز) لعدد من مرشحيه الذين صرفوا من حر اموالهم للصرف على تكاليف حملتهم الانتخابية، وهو ما جعل الموقف العام داخل الحزب منقسما تبعاً لهذين المعطيين وهو ما يرجح أن يتخذ الحزب موقفاً سيعبر عن هذا التباين في الاتجاهات وسيكون الاتجاه الاغلب مشاركة جزئية للحزب في الانتخابات، حيث هيأ الامة الساحة السياسية لقبول هذا الخيار حينما اشار لموافقة المفوضية على اكثر من 80% من المطالب والشروط التي وضعها الحزب لعودته للانتخابات، حيث تمثل تلك الشروط نفسها حدا اقل مما كانت تطالب به قوى الاجماع الوطني والتي قررت على ضوء عدم تنفيذها إعلان مقاطعة اطراف منها للعملية الانتخابية.

...لكن يبقي التحول الاساسي في انتخابات 2010م ورغم حالة الضباب التي اكتست مواقف الاحزاب الكبيرة ولكنها مثلت نقلة مهمة في ما يتصل بتحرر القواعد الحزبية من حالة الانصياع والانقياد لتوجيهات رئيس الحزب حيث نجحت تلك القواعد في خاتمة المطاف في اجبار قيادات الاحزاب في الاستجابة لاجزاء كبيرة من مطالبهم وتطلعاتهم...