الإعلام عبر التعاون وفي التحول
Brunnenstraße 9, 10119 Berlin, Germany
mict-international.org

مشروعاتنا الأخرى
afghanistan-today.org
niqash.org
correspondents.org
English

العائدون من الشمال: إنتظار طويل.... ومصير مجهول

عودة المواطنين الجنوبيين القاطنين في الشمال حملت صوراً من المتاعب التي لم تكن متوقعة لدى الكثيرين من الذين إقتنعوا بفكرة العودة الطوعية. فمنهم من لم يجد إستقبالاً يسره، وقال بعضهم أنهم فقدوا الأمل في أن يجدوا الدعم…
25.04.2024

 

ميناء جوبا النهري تراصت على رصيفه البواخر القادمة من الشمال... أما ضفة النهر فقد تحولت إلى خلفية فصل جديد في قصة معاناة العائدين من الشمال، يفترشون الأرض تحت أشجار المانجو، ومنهم من مضى عليه قرابة الشهر على هذه الحالة. حتى نقودهم التي جاؤا بها نفذت، وبالرغم من ذلك يقولون أنهم سعداء بالعودة إلى مسقط رأسهم.

ووفق تصريحات المفوضية العليا لشئون اللاجئين فإن إجمالي عدد العائدين إلى الجنوب وصل إلى أكثر من 53 الف عائد. غالبيتهم يمضي الأسابيع بل الشهور على ظهر شاحنة أو قارب نهري حتى يصل إلى محطته النهائية. أضف إلى ذلك فترات المكوث الاضطراري في نقاط التوزيع الرئيسية من أمثال كوستي وجوبا، والتي يفد إليها العائدون من جميع الأطراف الشمالية ليتم بعد ذلك نقلهم إلى مقصدهم النهائي. أما مدينة جوبا، فهي بوابة الولايات الاستوائية بلا منازع، وذلك بحكم استضافتها لمينائين كبيرين، أحمدهما جوي والآخر نهري.

طول الإنتظار

العائدون في ميناء جوبا يبيتون في الهواء الطلق وسط تلال عالية من المتاع والأثاث المنزلي. ينامون في الأِّسِرة ذاتها ويطبخون في الأواني ذاتها التي كانوا يستخدمونها في مدن الشمال، إلا أن الحوائط التي كانت تأويهم إختفت وحل محلها الفراغ، ولا أحد يدري إلى متى سيظلون هكذا بلا سقف فوق رؤوسهم. 

أقترب من فتاتين صغيرتين لا يتجاوز عمرهن الأثني عشر عاماً، يجلسن تحت ظل شجرة وارفة بينما إحداهن منشغلة بتظفير شعر الأخرى، ولولا سياق الموقف لاعتبرته مشهدا شاعريا. لكني فور أن اقتربت منهن تذكرت واقعهن المرير. رأيت لسعات الباعوض على أذرعهن عن جراء أسابيع طويلة قضينها في الباخرة جالسين على أمتعتهن، لا شئ بينهن وبين السماء. هذا ناهيك عن الظروف الصحية السيئة على الباخرة، والانعدام التام للرعاية الطبية بشتى صورها.   

وعندما سألتهن عن قصتهن قالت إحداهن وتدعى ساندي، أنها قادمة من الخرطوم منطقة سوبا الأراضي ومضى عليها قرابة الأسبوع وهي تفترش الأرض في الميناء. في كل يوم يعدوها بترحيلها الى منطقة توريت حيث محطتها النهائية، ويمر يوم بعد الآخر وهي لا تزال قابعة في مكانها لم تحرك ساكنة. وأضافت: حتى النقود التي كانت معنا نفذت ولاندرى ماذا سيكون مصيرنا إذا لم نجد طريقة للسفر الى توريت.

قصة ساندي وأختها ميري هي نفسها قصة لوسي (فترة الانتظار: سبعة أيام) وقصة كاتارينا (فترة الانتظار: ثلاثة عشر يوما) وغيرهن الكثيرين من القادمين من الشمال. تعرضوا لمعاناة غير متوقعة على طريق رحلتهم، خاصة فيما يتعلق بفترات المكوث الاضطراري في محطات الترانزيت الرئيسية.

عودة طوعية أم اضطرارية

 لماذا عادوا إذن؟ لماذا تكبدوا مشقات السفر إلى مصير يبقى، رغم كل الوعود التي جاءت على ألسنة قادة الحركة الشعبية، في علم الغيب؟

ردا على هذا السؤال تقول ميريل جيرارد، رئيس مكتب مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في جوبا، أن سبب العودة عادة ما يكون واحدا من ثلاث:  إما السعي للحاق بمراكز التسجيل قبل إغلاقها ومن ثم المشاركة في الإستفتاء. أو رغبة العائدين في أن يصبحوا جزءاً من المجتمع الجنوبي بعد الإستفتاء. أو الخوف من حدوث مشاحنات بين الجنوبيين والشماليين في حال إعلان الإنفصال.

بيتر هو أفضل مثال على النوعية الأولى من النازحين. قال إنه لم يسجل إسمه في سجلات الناخبين بالخرطوم لأنه في هذه الحالة لن يضمن ذهاب صوته الى حيث رغبته سواء أكانت الإنفصال أو الوحدة، لذلك قرر العودة الى الجنوب ليمارس حقه في الإستفتاء بحرية. وأضاف: \"نحن في الجنوب نفضل أن يعيش كل شعب على حدة، الجنوبيون في الجنوب والشماليون في الشمال، لأن عاداتنا وتقاليدنا تختلف إختلافاً كبيراً عن عادات وتقاليد الشمال. حتى حيواناتنا لا تشبه حيوانات الشمال.\"

أما التبرير الأخير لرحلة العودة، ذلك المتعلق بالخوف من تداعيات انفصال الجنوب، فنادرا ما تسمعه على لسان العائدين أنفسهم، كما تلحظ بشكل عام أن نبرة صوتهم وطريقة كلامهم تختلف عندما يتطرق الحديث إلى أسباب رحيلهم، فيحدثوك عن سعادتهم بالرجوع إلى موطنهم الأصلي وتطلعهم للعيش في جنوب مستقل، كما لو كانت المسألتين لا علاقة لهما ببعضهما البعض، مشقة السفر وسوء تنظيم الرحلات من ناحية ومن ناحية أخرى ذلك الفردوس الذين يؤمنون بأنه ينتظرهم في نهاية الطريق.

مأساة طفل

دومينيك، وهو فتى لم يتجاوز عمره الأربعة عشر عاما، يمثل ربما حالة استثنائية مناقضة لما سبق ذكره. استشف من حديثه أنه لم يأت طواعية، وبالتأكيد لم يأت مشحونا بالآمال والتطلعات كغيره من العائدين. دومينيك طفل مزدوج الانتماء إن صح التعبير، والده جنوبي ووالدته من قبيلة الفور الشمالية. إلا أن الظروف رجحت  كفة أحد الانتمائين على الآخر. في البداية كان انفصال الأبوين، وانتقال دومينيك للعيش في بيت أبيه. ثم في العام الماضي توفي والده. وأخيرا جاء برنامج العودة الطوعية ، فإذا به يجد نفسه  في رفقة زوجة أبيه وأبنائها وهم في طريقهم إلى توريت، مسقط رأس الأب.

سألته: \"كيف تترك والدتك وتأتي الى هنا؟\" رد، بينما عينيه مثبتة على الأرض في استحياء، بأن جيئته جيئة مؤقتة، وأنه ينوي العودة  إلى نيالا.

توجهت بالسؤال إلى اخوته من أبيه الجالسين بالقرب منه. قلت: \"أنتم أيضا تخططون للعودة إلى نيالا في يوم من الأيام، أم أنها الجيئة النهائية؟\" قالوا: \"سوف نرجع الى نيالا لأننا ولدنا هناك، ولا نعرف شيئا عن أهلنا في الجنوب. ولولا إصرار الوالدة لما أتينا.\"

فهل هذه هي الحقيقة؟ وبالتالي تكون أحلام الفتى دومنيك بالعودة إلى نيالا مجرد أحلام فتى صغير السن، لم يدرك بعد أبعاد الواقع المحيط به؟ للأسف لم نتمكن من الحصول على المزيد من المعلومات من هذه الأسرة قليلة الكلام.

طابور الغذاء

وفي طرف آخر من أطراف الميناء رأيت شيخا بملابس انيقة، يجلس على أحد الأسرة المتناثرة هنا وهناك وأمامه طابور طويل من العائدين الذين وصلوا للتو، يدنون منه الواحد تلو الآخر ويمدوه ببياناتهم الأساسية، الإسم، مكان المغادرة والوجهة النهائية.

أما ذلك الشيخ الذي جلس حانيا رأسه على كومة من الأوراق مدونا أسماء الأشخاص والمدن بعناية، فقد عرف نفسه بأنه السلطان شارلز، المسؤول عن العائدين المتجهين لمنطقة توريت. وشرح الهدف من تسجيل أسماء العائدين قائلا بأنه ضروري لتنظيم عملية الترحيل إلى الوجهات النهائية، والتي تتم بمساعدة منظمة الهجرة الدولية والمفوضية العليا لشئون اللاجئين. كما أن الأخيرة (بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي) تتولى إمداد العائدين بالمواد الغذائية طوال فترة مكوثهم في الميناء. وعلى ذكر الانتظار هز السلطان رأسه آسفا وقال: \"هناك عدد من العائدين مضى عليهم شهراً كاملاً في هذا المكان. إجراءات ترحيلهم كانت بطيئة جداً. لكن ربما تأتي الشاحنات بعد يوم أو يومين.\"

الوجهة النهائية ليست نهاية المعاناة

وأقرت ميريل جيرارد، رئيس مكتب مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في جوبا، أن بعض العائدين يضطروا للانتظار فترة إسبوع أو أكثر حتى تتمكن إحدى المنظمات الدولية من تنظيم نقلهم إلى محطتهم النهائية، لكنها نفت بشدة احتمالية أن تبلغ هذه المدة الشهر الكامل تحت أي ظرف من الظروف، \"فالميناء كان خاليا تماما من العائدين منذ اسبوعين\" على حد قولها. وتضيف: \"لكن هناك بعض الأسر التي تترك أمتعتها في الميناء وتدخل المدينة لزيارة الأقارب، ومن ثم تمكث هناك لفترة تطول أو تقصر، في هذه الحالة بالطبع فإن فترة بقائهم في جوبا تتعدى المتوسط المعتاد.\"

وعن المساعدات التي تقدمها المفوضية العليا للعائدين إضافة إلى ترحيلهم قالت: \"نقوم بتوفير الطعام والشراب، إضافة للعناية الطبية، لكن لا نزيد على الاحتياجات الأساسية لأننا لانريد أن نجعل من هذه الأماكن مخيمات دائمة لللاجئين، بل همنا إعانة هؤلاء الناس بغرض الوصول الى مناطقهم وأهلهم.\"

أما التحدي الحقيقي، فيبدأ بحسب ميريل جيرارد عندما يصل هؤلاء العائدون الى ولاياتهم. ف\"تلك الأعداد الهائلة من العائدين تشكل عبئا ثقيلا على القرى والمدن التي يأوون إليها، وفي أسوأ الحالات تتضاعف الكثافة السكانية في هذه المناطق، لكن دون أن تقابلها زيادة موازية في الخدمات الأساسية، سواء طبية أو تربوية أو غذائية أو غيرها.\" وتحاول المنظمات الدولية سد هذه الفجوة ببناء المدارس والآبار الجديدة وغيرها من مشاريع البنية التحتية.