الإعلام عبر التعاون وفي التحول
Brunnenstraße 9, 10119 Berlin, Germany
mict-international.org

مشروعاتنا الأخرى
afghanistan-today.org
niqash.org
correspondents.org
English

العنصرية وفقدان الحساسية في الغناء السُّوداني

موسى حامد
تحتوي كثير من الأغنيات السوُّدانية القديمة على معاني وإشارات عنصرية، وذلك لأن "الحساسية بالمفردات ذات الدلالات العنصرية، لم تكن حاضرةً" بحسب البعض، فيما يعزي آخرون ذلك لـ"عدم وجود تأهيلٍ ثقافي وتعليمي كافٍ وسط المطربين".
25.04.2024  |  الخرطوم، السودان
موسيقار وعضو في فرقة شرحبيل أحمد في استوديو في أمدرمان، الخرطوم، ٢٤ أغسطس\ آب، ٢٠١٣.  (الصورة: اليوناميد | سجود القراي)
موسيقار وعضو في فرقة شرحبيل أحمد في استوديو في أمدرمان، الخرطوم، ٢٤ أغسطس\ آب، ٢٠١٣. (الصورة: اليوناميد | سجود القراي)

قبل فترة، قدّمت المغنية فهيمة عبد الله، أغنية عبر تلفزيون السودان الرسمي وردت فيها عبارة ذات إسقاطات عنصرية مباشرة، أثارتْ بعض النقاشات والاحتجاجات. لقيت فهيمة عبد الله، واحدة من مغنيات الجيل الحالي، شهرةً واسعة في الفترة الأخيرة. ورد في أغنيتها عبارة "فَرْش البيتْ حرير، تَرْقُد عليه فَرْخَتْنا" — والفرخة في الثقافة السودانية هي الرقيق من الإناث، ويُقال للرقيق المذكر 'فَرِخْ'.

ربما كان الماضي حافلاً بكثير من الممارسات الفنية التي تفتقد للحساسية تجاه الكلمة المعبِّرة في الأغنيات وغيرها، لكن مؤخراً وبعد أن دخلت كثير من المفاهيم الجديدة في الحياة المعاصرة، مثل تقبُّل الآخر مثلاً، صار من غير المقبول تجاهل أيِّ إشارات عنصرية، في أيِّ سياقٍ وردتْ.

ليست فهيمة عبد الله لوحدها من سقطتْ في حضيض العنصرية في الغناء السوداني، وإنّما سبقها بسنوات حمد الريح، أحد فناني جيل الستينيات. تغنى حمد بقوله "عجبوني أولاد السراري" — والسِرِيّة، في الثقافة السودانية هي الأنثى من الرقيق، للتسرّي من قِبل سيّدها، وربما ينتج عن هذا التسرّي أبناء، لا يُنسبوا في أحايين كثيرة الى سيدهم.

عدم الوعي وعدم التأهيل

بالنسبة للبعض فإن سبب عنصرية عدد من الأغاني السودانية يعود لعدم وجود حساسية بالمفردات ذات الدلالات العنصرية  في الوقت الذي أنتجتْ فيه مثل هذه الأغنيات. 

"الذين أنتجوا مثل هذه الأغنيات، أو أدّوها لم يكونوا على قدرٍ من الوعي، بل لم يكونوا فنانين أصحاب مشاريع فنية، تُخاطب الإنسانية" يقول كامل الرحيمة، الأستاذ بكلية الموسيقى والدراما، مضيفا أن استعلاء العشائر السودانية كان مسيطراً بدرجةٍ أشبه بالأمر الواقع.

عدم الوعي ذلك يعود لـ "عدم وجود تأهيلٍ ثقافي وتعليمي كافٍ وسط المطربين" كما يقول معاوية حسن يس، كاتب 'من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان'، أكبر توثيق لحركة الغناء والموسيقى في السودان حسب العدد من الباحثين. عدم التأهيل "جعل الكثيرين منهم يُقدّمون ما قدّموه على سبيل المصادفة أو الجهل بخبايا المسائل، وبالتالي عدم الوعي الكامل بخوض معركةٍ تُحسب ضمن معارك ترسيخ الهُوية الوطنية السودانية" يضيف معاوية حسن يس. 

معاوية يواصل بجُرأةٍ محسودة، للتدليل على وجهة نظره، الى توجيه نقدٍ مباشرٍ لأنشودةٍ وطنية لطالما تغنى بها السودانيون، في اعتزازٍ بوطنيتهم، وهي 'أنا سوداني أنا'، التي تغنى بها حسن خليفة العطبراوي، من كلمات محمد عثمان عبد الرحيم. معاوية وصف الأنشودة – بالرغم من عذوبة لحنها وجودة سبكها الشعري – بالمحاولة اليائسة، التي جيّرتْ السودان للعرب وحدهم.

"الغريب العجيب أنّه يصر على أنّ النسل العربي الفطن، نزح الى أرض السودان، بأرومته وأنسابه الكريمة، لكنه لم يأتِ قط على ذكر أهل البلاد الأصليين"، يفسر معاوية.

القبلية وغناء نتاج صراعات

بالنسبة لآخرين، فأسباب هذه الاسقاطات العنصرية في الغناء هي موضوعية، كما يفسر الناقد والمهتم بتاريخ الغناء السوداني صلاح مصطفى، حيث "تعود لترسّخ العشائرية والقبلية بدل القومية السودانية".

"أغلب الغناء السوداني نتاج صراعات قبلية، وحروبات، بل إنّ أشعار غناء الحقيبة، الذي يُمثل الأساس الذي انبنت عليه الأغنية السودانية بشكلٍ عام، أغلبه تمجيد للقيم الجمالية العربية، من شعرٍ طويل، ولونٍ أبيض، وعيون مثل عيون المها، وغيره"، يقول الأستاذ عماد عبد الله، التشكيلي والمهتم بتاريخ الأغنية السودنية. "هوية المجتمع السوداني لم تتطوّر بعد إلى شكلٍ محدد المعالم." 

"أي مكوّن سوداني يتحدث عن انتمائه للسودان بمنظوره"، يقول مصطفى، الذي يرى بأنّ مقابل هذه الأغاني ما تغنى به إبراهيم الكاشف، من كلمات السر قدور، 'أنا إفريقي، أنا سوداني'، كما يقابلها ما تغنى به المغني محمد وردي، في 'يقظة شعب': "عرباً نحن حملناها ونوبة".

هذه الأغاني تركز على التنوع والمساواة، وتساهم في تجاوز العنصرية. نجد أن العنصرية العكسية موجودة كذلك في الغناء السوداني، حيث تقف أغنية  'يا فتاتي'، التي تغنى بها المغني الطيب عبد الله، نموذجا على ذلك. أشهر أبيات هذه الأغنية يقول: "ألأنّ السواد يغمرني/ ليس لي فيه يا فتاتي يدُ". الأغنية كتبها الطيب العبّاسي، عندما صدّته الفتاة التي يُحبها بسبب بشرته السوداء.  

تسليط الضوء على العنصرية في المجتمع عبر الغناء، ربما يساعد المستمعين من جميع الأجيال على تجاوزها، لأن الأغنية وسيلة لتسيير الحكايات والقصص عبر المجتمع، تمكن مع جريان الوقت من تغيير ما كان يعد لمدة طويلة من المسلمات.  

يضاف إلى ذلك ضرورة توجه جميع المؤسسات، التعليمية منها والإعلامية مثلا، نحو محاربة هذه الظاهرة. كثير من المختصين التربويين يرون أن المؤسسات التربوية في الوقت الراهن لا تقوم بدورها إزاء مثل هذه القضية بالصورة المثلى، بل أن بعضهم يتهم هذه المؤسسات والحزب الحاكم من ورائها باشعال نيران العنصرية في المجتمع. 

إلا أنّ المبارك الفاتح، المختص التربوي، يرى أن مؤسسة 'بخت الرضا' التي كانت معنية بوضع المناهج التربوية كانت تضع مناهج دراسية تراعي تنوع وتعدد المجتمع السوداني الاثني والثقافي وذلك قبل ثلاثة عقود من الآن. " كانت مؤسسة بخت الرضا تضع المنهج الدراسي للطلاب مراعية التنوع الثقافي والاثني للبلاد، لذا كان المنهج يشمل الشمال والجنوب والشرق والغرب ولم يكن منحازا لاقليم أو ثقافة معينة كما يحدث الآن." 

في الماضي كانت هناك العديد من النماذج الغنائية التي تحتوي إشارات عنصرية ولا يتوقف الناس عندها كثيراً. ولكن كما يشير عماد عبد الله، فهنالك تيارات في الغناء السوداني، بالأخص في العقود الأربعة الأخيرة، واعية بدورها التنويري، وأعملتْ أدواتها لخدمة هذه القضية. 

ربما تكون تجربة الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد خير مثال للغناء الواعي والمستنير الذي يدعو للقيم الانسانية الرفيعة، بالذات في أغنية 'اخوان الانسانية' التي تدعو لقيم الاخاء والمساواة والتي تحولت لمانفستو حداثي شبابي خلال سنوات التسعينيات من القرن الماضي. وربما، بعد وقتٍ كافٍ، تنتهي مثل هذه الظاهرة في زوايا النسيان.

جميع مواضيعنا متوفرة لإعادة النشر. نرجو الاتصال بنا عبر عنوان بريدنا الالكتروني عند إعادة نشر تقاريرنا، صورنا أو أفلامنا.