النيل الأزرق... منطقة لا تشبه إلا نفسها

بعد نحو أسبوع على إعلان رئيس الجمهورية المشير عمر البشير وقف إطلاق النار بجنوب كردفان، انفجرت الأوضاع بولاية النيل الأزرق الإستراتيجية عند الحدود مع إثيوبيا وجنوب السودان.

تحتضن ولاية النيل الأزرق أكثر من 8 ملايين فدان صالحة للزراعة، فضلاً عن 6 ملايين رأس من الماشية، بخلاف الذهب والمعادن الأخرى.

وتتميز ولاية النيل الأزرق بموارد خصبة بحيث يعتبرها كثيرون الأغنى، تحتضن أكثر من 8 ملايين فدان صالحة للزراعة، فضلاً عن 6 ملايين رأس من الماشية، بخلاف الذهب والمعادن الأخرى التي يختزنها جوف الأرض.

وفوق ذلك تتمتع الولاية بنسيج اجتماعي قلَّ ايجاد مثيله في أنحاء السودان الأخرى، لأنها الولاية الوحيدة التي تزخر بتنوع ديني.

رغم أن نحو 90% من سكانها مسلمون، بعض سكان الولاية المنتمون الى الاربعين قبيلة التي تقطن الولاية يعتنقون المسيحية، وآخرون وثنيون، والبعض تحكمه الأعراف والتقاليد.

من أبرز القبائل في النيل الأزرق البرتي والفونج والكومة والانقسنا التي ينحدر منها والي النيل الأزرق، مالك عقار، بالإضافة إلى قبيلة المابان المتاخمة لولاية أعالي النيل بدولة الجنوب.

الحلقات الأخيرة من المسلسل

ولاية جنوب كردفان تتشابه وولاية النيل الأزرق في كونهما من سواقط اتفاقية السلام الشامل التي خصصت لكل واحدة منهما برتوكولا خاصا، إلا أن وقوع النزاع في الأخيرة يعدو الأكثر أهمية، والأشد خطورة على مستقبل السودان.

النزاع يأتي في إطار إكمال آخر حلقات مسلسل 'المخطط'، حسبما ترى الحكومة أو 'تحالف قوى الهامش'، وفقا لرؤية الحركات الثورية التي رفعت السلاح ضد الحكومة منذ تاريخ السودان القديم والحديث.

فقبيل أيام قليلة لم تربُ عن الشهر ونيف، وقعت مجموعة من تلك الحركات اتفاقاً أسمته 'تحالف كاودا' لإسقاط نظام الخرطوم، و كان على رأس الموقعين الحركة الشعبية ‪-‬ قطاع الشمال.

عمليا أصبحت النيل الأزرق منطقة حرب، من خلال قرار رئيس الجمهورية إعلان حالة الطوارئ، وإعفاء الوالي المنتخب الفريق مالك عقار من منصبه.

عمليا أصبحت النيل الأزرق منطقة حرب، من خلال قرار رئيس الجمهورية إعلان حالة الطوارئ، وإعفاء الوالي المنتخب الفريق مالك عقار من منصبه.

وفقا لنص المادة 221 من دستور السودان و تحت الباب الرابع عشر "حالة الطوارئ وإعلان الحرب" الرئيس  مخول ل"حل أو تعليق أي من أجهزة الولايات، أو تعليق أي سلطات ممنوحة للولايات بموجب هذا الدستور".

وتبعا لذلك، تولى نائبه وفقا للدستور شؤون الولاية لحين معالجة الأمر بصوره رسمية. وبما أن نائب عقار رجل عسكري، أصبح الحاكم عسكريا.

العسكر يريدون المشورة!

الواقع الراهن، وفقا لخبراء سياسيين ومتابعين، لا يكفي التعامل معه عسكريا نظرا للعمق القضية و اختلاف أبعادها، لجهة أن تمرد والٍ منتخب من الشعب على الدولة لم يكن وليد لحظة أو صدفة، وإنما نتيجة لمواقف لها ما بعدها، وربما تكون مسنودة بدراسات وخطط بعيدة التحقيق يتم تنفيذها على فترات مختلفة.

خبراء آخرون يشيرون إلى أن التطورات الأخيرة ليست كلها 'مؤامرة' وإنما هي معللة بكون توفير الخدمة وتحقيق المساواة للمواطن هناك ضروري لإحداث التحول وتفادي الأزمات، ومن شأنها أيضا أن تسد الباب أمام التدخل الأجنبي.

عثمان الأغبش. © أدم محمد أحمدوفي هذا الإطار نظمت القوات المسلحة ندوة حول الأوضاع في النيل الأزرق، وعلى الرغم من أنها بسطت سيطرتها على أجزاء كبيرة من الولاية من بينها العاصمة الدمازين، إلا أنها تريد مشورة الآخرين، حسبما قال مدير الإدارة العامة للتوجيه والخدمات اللواء د. عثمان الأغبش.

اللواء استهل حديثه أمام الندوة التي عقدت بمباني وزارة الدفاع  في الثالث من هذا الشهر، ان" الكلمة والرصاصة يخرجان من فوهة واحدة، بالتالي يحتاج الأمر إلى خطاب متعدد المستويات، لأن البعض يحاول إنتاج الأزمة مثل المنظمات الأجنبية التي تأتي تحت ستار العمل الإنساني، ولكنها تحمل أجندة المخابرات العالمية". وهو أمر، وفقا للأغبش، يحتاج إلى تصميم برامج لمخاطبة الإعلام، وهذه مسألة مهمة وجوهرية تعين الجيش على تحقيق أغراضه.

لماذا الحرب الآن؟

والي النيل الأزرق سابقا بروفيسور بابكر جابر كبلو طاف في مداخلته في الندوة والتي قال ان "خصائص النيل الأزرق وميزاتها سبب في قيام الولاية بذاتها، في إطار سياسة الحكم المحلي التي أقرتها الإنقاذ في التسعينات، من بينها أنها ولاية حدودية وتتمتع بثروات كبيرة، وهذا يجعل أهلها ينعمون بنصيب وافر من تلك الثروة والسلطة".

وفوق كل ذلك يضيف كبلو سن الناظر إلى التركيبة القبلية والسكانية يجد فيها "نمطا يسترعي الانتباه، لأن هؤلاء جميعهم تجمع بينهم اللغة العربية".

لماذا الحرب الآن؟ هكذا دفع كبلو بالسؤال، وللإجابة عليه يقول: هي محاولة لصرف الأنظار عن التنمية التي بدأت تشهدها الولاية ومحاولة مدفوعة بالطمع لمزيد من السلطة والبحث عن انفصال جديد، أو الانضمام لدولة أخرى.  

لكن كبلو يؤكد انه لا يوجد ما يدعم هذا لان القبائل التي تكون النيل الأزرق لا صلة لها بدولة إثيوبيا ولا دولة الجنوب. وهذا ما دفع الرجل إلى وصف المنطقة بأنها "لا تشبه إلا نفسها" من ناحية التنوع وتعدد القبائل.

قلة الخبرة هي السبب

يقول عميد كلية الآداب بجامعة إفريقيا العالمية وأحد أبناء المنطقة د. بابكر محمد الرمالي أنه "منذ العام 2005 و بحكم التوجه لإرضاء النسيج الاجتماعي، الكثيرون ممن تولوا الحكم في المنطقة ليس لديهم الدراية والخبرة الواسعة، وبالتالي أصبحت الولاية حقل تجارب لذوي الأفق الضيق، مما خلق وسبب إشكاليات عديدة بحيث انعكس على عدم التنمية وسبب لدى المواطن نوع من عدم الرضى".

ومن ضمن ذلك أشار الرمالي إلى أنه "رغم وجود ثاني أكبر خزان لتوليد الكهرباء في الولاية، إلا أنه لا توجد كهرباء إلا في مدينتين الرصيرص والدمازين".

بانكر الرمالي. © آدم محمد أحمدويرى الرمالي "أن مالك عقار، باعتباره أحد الذين حكموا الولاية لديه أحيانا درجة من التعامل الصادق حيال العمل، لكن في ذات الوقت لديه "خرمجة" سياسية تجعل التعامل معه صعبا، وهذا بدوره أدى إلى استمرار الاوضاع وتدهورها".

هذا التدهور لم يأتي من المواطن العادي الذي يتميز بسلميته، وإنما من "منسوبي الحركة الشعبية الذين دخلوا المنطقة، باعتبار أن الحركة لديها نوع من الغرور والنزعة تجاه فكرة التحرر من العرب".

ووفقا لبابكر الرمالي، عقار ليست لديه القوة الشعبية، لأنه ينتمي لقبيلة "الانقسنا" وهي قبيلة قليلة العدد وذات ثقافة بسيطة.

هل هي "ضفة غربية" أم ثغرة استراتيجية؟

اللواء محمد العباس، المحلل الاستراتيجي العسكري، يعتبر ان الصراع الذي بدأت بوادره في السودان الآن يتركز في أغلى المناطق ثروة وأهمية، لذلك يأتي ضمن المخطط الاستراتيجي للسيطرة على السودان. ويقول العباس ان"منطقة الكرمك الحدودية في إطار المخطط تشابه الضفة الغربية بالنسبة لإسرائيل".

ويضيف: "ما يدور الآن يربط أعالي النيل بالنيل الأزرق من خلال منطقة الكودة، وهذا له أهمية إستراتيجية في العرف العسكري تتمثل في توفير الدعم والإخلاء".

لكن بروفيسور علي الزين عبد الرحمن تحدث عن متطلبات المرحلة في إطار ما يحدث وقال إن القنابل الموقوته 'أبيي، جنوب كردفان، النيل الأزرق' تفجرت الآن، وهذه ضمن الثغرات الإستراتيجية في اتفاقية نيفاشا.

 علي الزين عبد الرحمن. © آدم محمد أحمدهذا الأمر، وفقا للزين، ربما سيظل السودان يدفع ثمنه الى أجل غير مسمى، مشيرا الى أن الهدف الأساسي من ذلك كله هو إسقاط النظام في الخرطوم.

ويؤكد الزين أن المطلوب أولا "بالإضافة الى الحل العسكري هو ان يكون هناك استنفار متكامل ودعوة للاحتياط، وإحساس السودان بأن هناك تحدياً كبيرا سيواجه البلاد"، وهذا يمكن للإعلام ان يحققه، لكن الزين اتهم الإعلام بعدم الموضوعية حيث قال إنه "في الوقت الذي تشهد فيه أجزاء من السودان مشاكل مسلحة واشتباكات، تركز الفضائيات الحكومية وغيرها على الغناء وبرامج المنوعات، وهو أمر بعيد عن الواقع".

وحدد الزين عدد الاستحقاقات قائلا إن دفعها واجب، من بينها "الإسراع  في تكوين حكومة موسعة تشكل كل القوى السياسية، لأن الحزب الحاكم لا يستطيع مواجهة المرحلة لوحده، بالإضافة إلى دفع استحقاقات مجتمعية من خلال معالجة القضايا الاقتصادية وغلاء المعيشة، وتكوين خلية من الخبراء لإدارة الأزمة وتسليط الضوء على البؤر والبحث عن المزيد من المعالجات".

كما جرت العادة تغص الندوات وتفيض بالاقتراحات والرؤى التي تتناول المشاكل السودانية، توضع التصورات عن الأسباب ويتم عرض النتائج والتحذير من عواقبها، إلا أن الواقع على الأرض لا يبدو معنيا بما يثار من عصف ذهني أو تصورات. النيل الأزرق حلقة تضاف إلى مسلسل الحلقات المشتعلة فهل من عملية إطفاء حقيقية؟