الإعلام عبر التعاون وفي التحول
Brunnenstraße 9, 10119 Berlin, Germany
mict-international.org

مشروعاتنا الأخرى
afghanistan-today.org
niqash.org
correspondents.org
English

“الانتخابات ليست علاجا وإنما مسكن”

لدى سكان المناطق الطرفية مطالب سياسية قليلة لا تتجاوز محاربة البطالة وتوفير الخدمات الرئيسية، لكن الكثير منهم لا يعتقد أن الانتخابات يمكن أن تحقق هذه المطالب.
سكان المناطق الريفية مطالبهم بسيطة فهل تحققها الانتخابات؟
سكان المناطق الريفية مطالبهم بسيطة فهل تحققها الانتخابات؟

المناطق الطرفية هي المناطق التي تضم غالبية المواطنين ذوي الدخل المحدود وغالبيتهم يعيشون ظروفا صعبة، حيث يفتقدون سبل العيش الكريم ويعانون من انعدام الخدمات. وخلال الأيام الفائتة قادتني تغطية الانتخابات الى الوقوف عن قرب، ترى كيف يعيش هؤلاء المواطنين وهل أوضاعهم المعيشية تقودهم الى ممارسة حقهم في التصويت بحرية؟ وهل هم متفائلون من أن الانتخابات تكون المخرج بالنسبة لهم؟

قلة سقف المطالب السياسية هي السمة الغالبة لمواطني المناطق الطرفية بعد أن رفعت الدولة يدها عنهم وتوقفت عن تقديم الخدمات (كالدواء والعلاج والتعليم والمأكل والملبس). هؤلاء المواطنين لا هم لهم سوى البحث عن ما يسد رمقهم ويعيد البسمة لشفاه أطفالهم، وطموحاتهم السياسية محدودة جدا لا تتجاوز محاربة البطالة وإيجاد فرص عمل كافية.

"الانتخابات في تقديري مثل المسكن للألم وليس علاجاً كاملاً لأنه لم يأتي بالتغيير في درجاته الدنيا."

دفعني الفضول أن أسأل مواطناً يسكن بالحاج يوسف عن تقيمه للوضع السياسي بالبلاد وعن توقعاته لما ستؤول اليه الأوضاع بعد الانتخابات ومن حسن حظي وجدته شخصاً عاصر عهود الديمقراطية في السودان. وفي حديثه معي قال لي "كنت عاملاً بالنسيج السوداني منذ العام 1967 كنت أتقاضى راتباً شهرياً يسد حاجتي وحاجة أطفالي الصغار، وكانت زوجتي لا تعمل، كنت في تلك الفترة لانعاني من قلة العلاج ولم ندفع في مقابل الخدمات مثلما ندفعه اليوم. وحتى في عهد حكومة النميري كنا أحسن حالاً من الآن وإذا قست الحال اليوم، فإن المرأة تعمل وأنا أعمل لكن لا نستطيع توفير وجبة مثل التي كنت أوفرها أنا بمفردي. والمصيبة الكبيرة لدي أطفال بالمدرسة في كل شهر تواجههم مشكلة الطرد من المدرسة بسبب عدم دفع الرسوم وهذه الحالة تزعجني كثيراً"

سألته: هل تتوقع تحسن الحال بعد الانتخابات؟ قال: "إذا أتت الإنتخابات بالتغيير فأنا أتوقع تحسن الأوضاع، لكن ما أراه أمامي من تلاعب وتأثير على الناس البسطاء يجعلني أكثر تشاؤماً لمستقبل البلاد في المرحلة القادمة، لأن الأوضاع التي نعاني منها سوف تظل في حالها لأن التغيير الذي يريده المواطن السوداني أصبح صعب المنال ،وأي تفاؤل للتغيير لا وجود له وربنا يستر من العواقب.”

روح التشاؤم أصبحت ملازمة للكثيرين وقلما تجد شخصاً متفائل ويعتقد أن الأوضاع سوف تتحسن في السودان نحو الأفضل، بل فضل البعض عدم الخوض في هذا الأمر وتركها لمشيئة الخالق. لكن ما زال السؤال يدور في ذهني لعلي أجد إجابات فيها نوع من التفاؤل لمستقبل السودان بعد الانتخابات، وحملت السؤال معي وتوجهت إلى منطقة سوبا الأراضي. وبعد أن تمعنت جيداً في وجوه الناس ومساكنهم المشيدة من الطين وعلامات البؤس البادية على محيا كل رجل وإمرأة تسكن في هذه المنطقة عثرت على شخص كبير في السن بدأ كلامه بالحديث عن السودان بشكل عام وعن الوضع السياسي سابقاً والآن وعن مشكلات المناطق الطرفية، ومن حديثه تيقنت أن المواطن في السودان مكتوب له الشقاء والبؤس لسنوات قادمات. فقد قال: "أنظر أمامك في هذه المساكن وتخيل إذا هطلت أمطاراً غزيرة ماذا يحدث لهؤلاء المواطنين؟ وبالرغم من هذا الوضع السيء فإن هذه المنطقة ما زالت مهددة بالإزالة وأنت تعرف الأحداث التي وقعت في هذه المنطقة، الوضع الطبيعي هو أن يجد كل مواطن سوداني قطعة أرض يسكن فيها، لكن الاعتبارات الأخرى ساهمت في تأخير هذا الحق لأهالي هذه المنطقة. كنا في السابق يا إبني نعيش حياة كريمة حيث الجار يحنو على جاره وكنا نأكل في جماعات، وإذا مرض أحد الجيران كل الناس تزوره، اليوم تدهورت الأحوال وأصبح الرجال يأكلون داخل منازلهم وحتى الجار لا يرى جاره إلا في الأعياد. بالله عليك إذا قال ليك واحد أن السودان يسير نحو الأمام هل تصدق ؟ نحن اليوم تدهورت قيمنا وأخلاقنا، الإنسان أصبح بلا قيمة ولا كرامة هل يمكن أن نطلق عليه إنسان؟ اليوم الأخ يتشاجر مع أخيه من أجل المادة وربما يتقاتلان هل هذا نتيجة لتحسن الأوضاع أم لتردي القيم والروابط الاجتماعية؟"

وأضاف "من ناحية ثانية أصبح المواطن لا يفكر في دولته إلا بقدر ما يوفر له هذا التفكير من مال يضعه في جيبه ولا يهمه من أين جاء هذا المال . طبعا تقول أن الدولة تفرغت للتنمية والعمران، أنا لم أنكر الحاجة الكويسة لكني أرى التنمية في الإنسان نفسه فإن لم يجد هذا الإنسان الغذاء والدواء والتعليم هل يمكن له أن يعيش؟ نحن يا ابني في دولة غالبية أهلها فقراء ومساكين وهم يحتاجون لرعاية والدولة هي التي تقدم الرعاية كجزء من واجباتها تجاههم، الصورة مغايرة تماماً فحينما تخرج الى الأطراف تشاهد بأم عينك ما يشبه الخيال، ولو ذكر لك بأن الناس في الأطراف يعيشون هكذا لما صدقت قولهم، وأنت اليوم تجلس معنا و ماشاهدته وسمعته هما دليلان كافيان بأننا نعيش حالة من التناقض في سياساتنا تجاه المواطن، فالأطراف تعيش على هامش الحياه، وبالرغم من هذا نحن اليوم نحمد الله بأننا أحسن حالاً لأننا نجازف ونعمل بشتى السبل لتوفير لقمة العيش، وفي أماكن ثانية تحتار حتى في كيف تجد فرصة عمل هذه خلاصة توضح التناقض الذي نعيش فيه في السودان. وهذا يمكن أن يجيب على سؤالك دون أن أشير الى المستقبل بعد الانتخابات، كل الدلائل تشير الى أوضاع سيئة للغاية لأن المرض كان علاجه ناقصاً، الانتخابات أنا في تقديري مثل المسكن للألم وليس علاجاً كاملاً لأنه لم يأتي بالتغيير في درجاته الدنيا".

ما سمعته من محدثي كان درساً في السياسة يفتقر اليه شباب هذا الجيل الذي لم يرى في السودان إلا البؤس والشقاء بالرغم من خيراته التي أصبحت نقمة عليه وليست نعمة، وما قاله يكشف الحقيقة الغائبة عن الجميع من الذين لا يرون في السودان إلا شوارع وعمارات الخرطوم والخرطوم بحري وأمدرمان، الف عذر لسكان الأطراف من جور الزمان.