الكتاب كلمة للتاريخ، وجهدٌ توثيقي. هذا هو الغرض الأول. الغرض الثاني من هذه الملامة -كما أسميتها- ما كتبته في آخر صفحة من الكتاب، وهو:
لقد أدّتْ كل تلك الأخطاء التي ارتكبتها القوى السياسية السودانية، منذ الخمسينيات، وقاد تراكمها والإصرار عليها الى انشطار البلاد، وبروز دولتين محمّلتين بكل أثقال النزاع الطويل، والحرب المدمّرة، من بؤسٍ وحرب وتخلُّف وانقسامات، وحروب قبلية وأهلية، واستبداد وفساد. انتهى حتى أمل وحلم دولة بنظامين، وحلّ محلّهما دولتين بنظامٍ واحد. تُرى هل سيعي القادة والساسّة والمتعلمون هذا الدرس القاسي، من تجربة انفصال جنوب السودان، في الحروب التي اشتعلت في هلال التمرد الجديد، الممتد من دارفور، مروراً بجنوب كردفان والنيل الأزرق، أم سيُصبح هذا الهلال الجنوب الجديد للسُّودان؟
كل الحلول التي كانت تُقترح من قبل الحكومات السودانية المتعاقبة، كانت عبر دمج الجنوب عبر تعليم اللغة العربية، والإدخال القسريِّ للإسلام، و’خلاص الموضوع انتهى’. كل التباينات والاختلافات الثقافية، لم يكن يُوضع لها الاهتمام والاحترام، فقط هو الإقصاء والاستعلاء الذي ذكرته لك من قبل.
ودعني أذكر لك حوادث. مثلاً إبراهيم عبود، كانت فكرته لحل مشكلة الجنوب هي: الدمج الثقافي، والحرب. وعليه، فقد اتبع ممارسة التضييق الديني عبر إغلاق الكنائس، وإبدال أسماء الجنوبيين بأخرى عربية، واستبدل العطلة من الأحد الى يوم الجمعة. وغيرها من الممارسات.
هذا بالنسبة لي، استعمارٌ جديد بكل ما يحمل من معنى. أنت تفرض عليَّ ثقافة ولغةً وفكر ودين. وذات هذه السياسة استمرت في فترة محمد أحمد المحجوب.
باختصار لعدم جدية الأحزاب السياسية الشمالية، في التعامل مع قضية الجنوب.
مثلاً، جعفر نميري، يوقّع اتفاقية مع جوزيف لاقو في أديس أبابا، ١٩٧٢، ويعترف بأنّ الجنوب كله إقليم واحد. ثم يأتي بعد فترة، يقول بتقسيم الجنوب الى ثلاثة أقاليم، ويقول لأنجلو بيدا، وجوزيف لاقو، وأبيل ألير، بأنّ قرار التقسيم نهائي. وإذا لم تقبلوه، ستستمر الحرب ١٧٠ سنة، وليس ١٧ سنة. هذه غطرسة واستعلاء بصورة مزعجة.
مثال ثاني: في العام ١٩٦٥، قدّم الجنوبيون مطالبات متواضعة، وهي الفيدرالية، واليوم منح الشمال الجنوب أكثر من تلك المطالب مليون مرة، ما رفضه في العام ١٩٦٥.
مثال ثالث: في كوكادام ١٩٨٦، لم يتحدث جون قرنق - وقتها - عن تقرير مصير، ولا عن انفصال. لكنه تحدث عن مؤتمرٍ دستوري، وعن إلغاء قوانين سبتمبر، وإنهاء اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر وليبيا، وإطلاق سراح المعتقلين، وإلغاء حالة الطوارئ.
يجلس حزب الأمة، ويوقّع عنه كلٌ من: عمر بشير، وإدريس البنا، لكن وقبل أنْ يصلا الى بيوتهما من المطار، يلتقي بهما الصادق المهدي، ويقول لهم: لماذا وقّعتم، نحن لن نقبل بهذه الاتقاقية. مع العلم بأنّ الصادق المهدي كان يتحدث معهما عبر الهاتف، ووافق على الاتفاقية.
الاتحاديون أيضاً لم يتحدثوا عن نيّتهم أبداً في الذهاب الى كوكادام من عدمه، بالرغم من انطلاق المفاوضات فيها، ثم يأتي بعد ذلك الاتحاديون، لتبني اتفاقية قرنق- الميرغني. أين كنتم في كوكادام؟
انطلق تمرد ١٩٥٥ في عهد الأزهري، ولو كان رجل دولة، لتعامل مع التمرد بصورةٍ فيها مسؤولية أكبر. للأسف إسماعيل الأزهري، وقبل أنْ يعرف الناس ما الذي حدث في الجنوب، ألقى خطاباً في البرلمان، وشتم فيه الجنوبيين، وحمّل السلاطين، والبوليس في الجنوب مسؤولية ما حدث. وقال بأنّهم كحكومة سيتعاملون مع ما حدث بحسمٍ، ووصفهم بالمتمردين.
وبالمناسبة، فإنّ أول من أطلق لفظة 'متمردين'، على أحداث في الجنوب، هو إسماعيل الأزهري. بعدها ألقى خطاباً في نوفمبر من ذات العام، وقال إنّ من يثبت تورّطه سنتعامل معه بقسوةٍ وقوة. ثم لمّا كون لجنة للتحقيق فيما بعد برئاسة القاضي قطران، أدانت اللجنة في تقريرها النهائي الحكومة.
ودعني أختم بأمر مهم، وهو إنّ الإعدامات في تمرد توريت، تمت بعد يومين فقط من الاستقلال. فلو كنت في مكان الأزهري، لكنت أطلقت سراحهم، وأعلنت فتح صفحة جديدة.
التردد وعدم اتخاذ القرار. مثال لذلك موقفهم في١٩٦٥، وإصرارهم على رفض الفيدرالية، وعلى تطبيق الشريعة الإسلامية. وكذلك رفضهم الذهاب الى كوكادام. الإخوان الاتحاديين يعتقدون بأنّ اتفاقية١٩٨٨ ، قرنق والميرغني، كانت ستحل كل مشكلات السودان، هذا صحيح، لكن أين كنتم في كوكادام ١٩٨٥؟ الإجابة باختصار لأنّ الجبهة الإسلامية القومية ابتزتهم الى حد الموت، وأرهبتهم.
وللمفارقة، فإنّ أول اتفاقية وقعّها حزب شمالي مع الجنوبيين، وحوت الاعتراف بحق تقرير المصير، وقّعها الاتحادي الديمقراطي.
الترابي لعب دوراً كبيراً في ذلك. مثلاً، في مؤتمر المائدة المستديرة العام ١٩٦٥، عندما طالب الجنوبيون بإقليمٍ واحد، رفض الترابي ذلك، وأصر على المديريات الثلاث. بل قال إنْ أراد الجنوبيون الذهاب فليذهبوا. هذا بجانب إنّ فكرة الدستور الإسلامي، هي فكرة كلٌ من الترابي والصادق المهدي.
مسؤوليته كبيرة أيضاً. الصادق المهدي عندما كان رئيساً للوزراء، في الحكم المدني الثاني، ١٩٦٥ - ١٩٦٩، ارتكبت ثلاث مجارز في الجنوب. مجزرة جوبا، مجزرة واو، ومجزرة السلاطين. ولم يحقق فيها. بل في عهده قُتل وليم دينق، ولم يفتح الصادق المهدي تحقيقاً في ذلك. بالرغم من قُرب وليم دينق للصادق، ومحاولته الاعتماد عليه.
في الفترة ١٩٨٥ - ١٩٨٩، وهي أطول فترة حكم مدني، وكانت برئاسة الصادق المهدي، صعّد فيها الحرب في الجنوب، ورفض إلغاء قوانين سبتمبر، ورفض اتفاقية الميرغني- قرنق. ووقعت في عهده مذبحة الضعين، ورفض البرلمان التحقيق فيها.
في العام ١٩٦٥، كانت فرصةً ذهبية للحزب الشيوعي السوداني أنْ يلعب دوراً، ويخرج من عُباءة الأحزاب الدينية والطائفية، وأنْ يُقدّم حلاً منفصلاً لمشكلة جنوب السودان. لكنه فشل فشلاً تاماً في ذلك. بل إنّ الحزب الشيوعي السوداني ادّعى بأنّه لعب دوراً في مؤتمر المائدة المستديرة. هذا كلام غير صحيح، الحزب الشيوعي السوداني انسحب من مؤتمر المائدة المستديرة، وانسحب من لجنة الإثني عشر، وستجد هذا الأمر موجوداً في كتابي، وبتفاصيل كثيرة.
للأسف، كان من الممكن أنْ يلعب الحزب الشيوعي أدوراً كثيرة، لكنه لم يلعبها.
القوات المسلحة، كانت حرب الجنوب بالنسبة لها حرب كبرياء. ويجب عليها أنْ تهزم التمرد، والخونة والعملاء. وبالنسبة للقوات المسلحة، فإنّ حرب الجنوب حرب خاصة، والجانب السياسي فيها غير مهم. قد يكون فيها جانب إسلامي، أو عروبي، لكن ما أقوله إنّ حرب الجنوب بالنسبة للقوات المسلحة يُنظر لها من باب أنّهم تمرّدوا عليهم، وحاربوهم، ولذا يجب القضاء عليهم.
وبالمناسبة، ارتكبت في هذه الحرب تجاوزات ضخمة، منها مجزرتي واو وجوبا، أكّدتها ووثقتها المحكمة العليا، والقاضي عبد المجيد إمام.
وأين دورها؟
لا أحمّل الحركة الشعبية أيَّة مسؤولية، فيما يخص انفصال جنوب السودان.
هذا صحيح. المسؤولية مسؤولية الفكر الاستعلائي الإقصائي. والفشل في أنْ تعيش مع التنوع والتباين. هذا الفكر لم يبدأ من الإنقاذ، لكنها صعّدته، واستخدمته فكراً رسمياً للدولة. وهي من أعلنت جهاداً على جزء من شعبها. هذا فكر إقصائي استعلائي بصورةٍ مزعجة.
أنا لا أستبعد، وإنّما أتسائل: أين هو الدور الأجنبي، الدور الأجنبي فقط أتى فقط بالمطالبة بالالتزام بما تمّ التوقيع عليه من اتفاقيات.
التدخل الأجنبي في رأيي ليس هو الذي تسبب في انفصال جنوب السودان، وإنّما السبب هو فشل النُخب الشمالية في إدارة قضية الجنوب. وكذلك الفشل في إدارة قضايا السودان. وانظر الى المشكلات التي ظلّ يُعاني منها السودان، وما يزال حتى بعد انفصال جنوب السودان.
الذي وصلت إليه، أنّ السبب في انفصال جنوب السودان هو الاستعلاء والإقصاء الممارس من القوى السياسية الشمالية.